جلس الرئيس الأمريكى الأسبق ريجان يتحدث إلى الصحفيين، وكان فى أشد حالات الغضب والحنق على إيران، وزعيمها الروحى الأسبق الخومينى بعد اقتحام وحصار السفارة الأمريكية فى طهران، واحتجاز عشرات الدبلوماسيين الأمريكيين فيها، والاستيلاء على وثائقها ومكاتباتها المهمة. انفعل ريجان خلال حديثه إلى الصحفيين، والذى يبث عبر الفضائيات، فوصف الخومينى، المرشد الروحى للثورة الإيرانية، بـ«الكلب والخنزير».. استدرك مستشار الأمن القومى الأمريكى الموقف، وكان يجلس إلى جوار ريجان، فدسّ إليه بلطف ورقة صغيرة تنصحه بالاعتذار عن هذه الإساءة وسوء الأدب.. قرأ ريجان الورقة على عجالة، وأدرك أنه أخطأ، وأن عليه اتباع نصيحة المستشار.. اعتذر بعدها بلحظات دون تردد، وأقر بخطئه فى نطق هذه الكلمات الفاحشة أمام الصحفيين والكاميرات.
كان مستشار الأمن القومى يدرك أن هذه الإساءة الشخصية قد تفجر الموقف كله مع إيران، وقد تعقد حل المشاكل معها، خاصة أن الخومينى أصبح بطلًا قوميًا للثورة الإيرانية، وأصبح الرمز الأعلى لها. لم يكن ريجان أو مستشاره يحبان الخومينى قطعًا، وكانا يكرهانه بشدة، لكنهما أدركا أن الخطاب الإعلامى والسياسى له أصول مرعية، وقواعد ينبغى احترامها واتباعها، وأن الدول حتى فى حالات الخصومة أو الحرب والصراع السياسى أو الاقتصادى أو حتى العسكرى تحكمها ضوابط فى خطابها السياسى والإعلامى، وهذه الضوابط تصب عادة فى مصلحة الدول، ويكون اتباعها والالتزام بها سببًا من أسباب حل هذه الصراعات، أو تقليل آثارها السلبية على الأقل.
تذكرت هذا الموقف الذى مضى عليه أكثر من أربعين عامًا وأنا أشاهد فى ذهول حلقة من برنامج «على مسؤوليتى»، وأحد ضيوف الحلقة، وهو صحفى مصرى، يشتم رئيس دولة عربية بشتائم قبيحة، ثم يكرر كل عدة دقائق فى الحلقة «قطر بنت..»، والمذيع يضحك بملء فيه، ويحاول منعه بطريقة كوميدية قائلًا: اعتذر للجمهور.. فهذا للحكومة القطرية وليس للشعب القطرى، ويعتذر بطريقة أغرب للشعب القطرى، ثم يكرر الصحفى عبارته عدة مرات فى حلقة مدتها نصف ساعة، ويتكرر معه السيناريو مرات ومرات.. قد تكون هذه الكلمات تصلح أن تقال فى «غرزة» أو فى جلسة من جلسات «الحشيش والروقان والسلطنة»، لكن أن تقال هى وغيرها من كلمات على شاشة يراها الآلاف فهذا لا يليق بمصر، وإعلامها على وجه الإطلاق.
سأسارع على الفور حتى لا يصطادنى البعض فى «حارة سد» إلى التأكيد أننى لم أذهب إلى قطر طوال عمرى، ولم أعمل فيها أو فى أى بلد عربى أو غير عربى، ولا أعمل إلا فى عيادتى الخاصة، وأدرك أن سياسة الدوحة مع مصر سياسة عدائية وسلبية وخاطئة، لكن ليس بهذه الطريقة تدار الصراعات، ولا تدار السياسة، ولا يدار الإعلام، ولا تسير الأمور. كانت الحلقة كلها تدور حول «الردح الإعلامى» فى أسوأ صوره، مع وصلات من الشتائم لشخصيات كثيرة بصورة تضر المصالح الاستراتيجية المصرية، وصورة الإعلام المصرى.
استعدت ذاكرتى القديمة فى الستينيات، فتذكرت كيف أن الإعلام المصرى وقتها كان يشتم الملك حسين، والد الملك عبدالله، شتائم قذرة حتى أنه كان لا يسميه باسم أبيه «الحسين بن طلال» بل يسميه باسم أمه «حسين بن زين» فى إسفاف وابتذال غير مقبول، وكانت شخصيات سياسية فاعلة فى الدولة تردد ذلك دون حياء أو خجل فى خطبها السياسية العامة، واليوم يتكرر هذا الأمر مع آخرين، والذى تغير فقط هو تغير الأسماء، ورغم ذلك لم يرد الملك حسين يومًا على هذه الإساءة بمثلها، فقد كان معروفًا بالعقل والحكمة والتريث والأناة، وجاء الملك حسين قبل حرب 1967 ليمد يده إلى الرئيس ناصر، وإلى الذين شتموه وأهانوه، وكان ثمن هذا التحالف احتلال الضفة الغربية التى كانت تديرها الأردن وقتها مع احتلال جزء من الأردن.
وتذكرت فى الستينيات كيف كان الإعلام المصرى يشتم ملك السعودية صباح مساء، وعبر البرامج والنشرات، ثم بعد ذلك عبر الدراما والمسلسلات، وكانت «ألف ليلة وليلة» فى كل عام فى شهر رمضان تزج بأمريكا وملوك السعودية والأردن وكل الملوك فى سياق درامى بغيض يحوى درجة كبيرة من الإسفاف والابتذال، ويبتعد عن الحكمة والتعقل كثيرًا. لقد كان هناك زعيم مصرى سياسى فى الستينيات يندد فى خطبه بملوك السعودية، ويهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور نتيجة خلافات سياسية بين مصر والسعودية بعد التدخل المصرى فى اليمن، ثم دارت الأيام دورتها، ووقعت كارثة 5 يونيو، وإذا بالدول التى كنا نشتمها صباح مساء، وعلى رأسها السعودية ودول الخليج، تقف معنا بكل إمكانياتها، وتسخر كل إمكانياتها السياسية والاقتصادية حتى تنتصر مصر، ومعها العرب مرة أخرى على إسرائيل، وظلت دول الخليج وعلى رأسها السعودية التى كنا نشتمها صباح مساء تساند كل دول الجبهة حتى نصر أكتوبر، وبعدها ساهمت مع غيرها من دول الخليج، مثل الإمارات والكويت وعمان، وغيرها، فى تعمير مدن القناة، وتعويض الجيش المصرى ما فقده من مدرعات وطائرات بعد نصر أكتوبر.
إننا لا نريد من إعلامنا أن يكرر مآسى الماضى، أو ينزلق إلى هوة سحيقة من التطاول الشخصى والإسفاف الرخيص، أو تأجيج الصراعات أو الردح صباح مساء، فالعلاقات الدولية دومًا هى بين مد وجزر، وإقبال وإدبار، فصديق اليوم قد يكون عدو الغد، والعكس صحيح، والحكمة والتناول العلمى الدقيق للأمور دون إسفاف أو ابتذال هو الذى سيفيد بلادنا فى أوقات الصفاء والعداء، والسلام والحرب، أو التلاقى والبعد؟
متى نترك الحنجورى الذى ضيع مصر والعرب أزمانا طويلة؟.. متى نتعلم الإعلام المهنى والحرفى الرصين الذى يهتم بالحقائق والمعلومات والوثائق، وينقل الأحداث دومًا من أرضها وبلادها، وعن طريق المراسلين لا عن طريق جلسات الاستديو التى تسودها «حكاوى القهاوى»، سيقول البعض إن بعض القنوات المعادية للدولة والحكومة المصرية والتى تدعمها قطر تستخدم الإسفاف والابتذال والألفاظ النابية، فضلاً على التحريض على العنف، سأقول: نعم هى تفعل ذلك، لكن لا ينبغى على الإعلام المصرى أن ينجر إلى هذا المستنقع، وعلينا أن نحمى أمننا القومى، وندافع عن مصر دون تسفل أو شتائم أو بذاءات، وعلينا أن نستفيد من تجربة الستينيات وأن نتعلم من تجربة الإعلام العراقى أيام صدام حسين، وألا نلدغ من الجحر الواحد مئات المرات، وعلينا أن نعمل كثيرًا ولا نتكلم إلا فى أضيق نطاق، حتى يعلم الجميع أننا أمة عمل لا هزل، وعفة لا سفاهة، وعطاء لا منّ فيه.. لقد كان من أسوأ نتائج الصراعات السياسية الداخلية أو الصراعات العربية العربية هو شرعنة التفحش، وإقرار استخدام بذاءة اللسان فى الصراع السياسى، وكأن بالوعة مجارى الأخلاق السيئة انفتحت فى الوطن العربى مع اندلاع ثورات الربيع العربى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة