الحياة اختيار، والفن اختيار، والبصيرة اختيار، ولكل منا بوصلة تحدد مساره ومصيره، سعيد من وجدها فلم يفارقها، وهانئ من اتبعها دون ميل أو زيغ، فأصعب شىء على الفنان أن يجد بصمته الخاصة، والأصعب أن يتمسك بهذه البصمة حتى يصبح علامة يدل عليها وتصبح علامة تدل عليه، وهنا تكمن عبقرية الرؤية الفنية للفنان التشكيلى فتحى عفيفى الذى ما إن ترى لوحاته حتى تشعر بأن لها قلوبا وأوردة وشرايين، تمتلئ بالحب والحياة والشقاء والعمل والبهجة، حتى أصبحت أعمال «عفيفى» علامة على الحياة المصرية بأشجانها وأوجاعها.
فى الثامن من مارس المقبل سيتم عفيفى عامه الخامس والستين وهو ذات اليوم الذى سيحتفى فيه «جاليرى مصر» بتجربة الفنان الكبير، عبر إقامة معرض خاص لعفيفى، يقدم فيه أحدث أعماله الفنية وأجملها، حيث تتعانق فى فضاء ألوانه مسيرة كفاح مصر الغائبة عن عناوين الصحف وشاشات الفضائيات، مصر التى لا يعرفها سوى من يدخل إلى أتونها كل صباح، مصر الموجعة والموجوعة، البائسة والمبهجة، العاملة والخاملة، مصر الحية دائما خلف «توال» فتحى عفيفى.
نعرف جميعا أن للحب رائحة، لكن ربما لم يحالفنا الحظ يوما بأن نشم هذه الرائحة فى لوحة فنية موقعة باسم فنان حقيقى، ولهذا يصبح معرض «عفيفى» المزمع إقامته فى «جاليرى مصر» فرصة سعيدة لاقتناص قبس من نور تلك الرائحة التى تعمر الأنوف.
خمسة وستين عاما قضاها عفيفى فى «مصر الحقيقية» تتنقل ريشته من بيت إلى شارع، ومن شارع إلى مصنع، ومن مصنع إلى مقهى، ومن مقهى إلى المترو، ومن المترو إلى السينما، ومن السينما إلى الحلم ومن الحلم إلى الفضاء السماوى الرحيب، خمسة وستين عاما حفر فيها فتحى عفيفى بصمته الفنية المبهرة، فصارت فطرته وتلقائيته شهادة حية على حياتنا وتقلباتها.
وليس أدل على قدرة «عفيفى» الفنية وعبقرية تقنياته الأدائية من عشقه للتشكيل بالأبيض والأسود، غير أن حجم الإبهار الذى نشعر به فى لوحاته التى لا يستخدم فيها إلا هذين اللونين يفوق الكثير من اللوحات الملونة، فقد استطاع عفيفى برهافة حسه الفنى أن يخلق من هذين اللونين تعددا لا حصر له، وأن يشعرك بغنى لونى نادر، عبر إتقان تقمص الحالة الفنية المراد تصويرها، فتنسى فقر الألوان، وتسعد بغنى الحالة.
يثبت عفيفى أن بلاغة التشكيل تصفع بلاغة اللغة فقط حينما يكون الفنان صادقا، يثبت أن الحياة العادية التى نعشيها مازالت غنية بأفكارها ورؤاها وأفقها، يثبت أن الفنان لا يكون فنانا إلا حينما يتمرد على ما هو سائد، يثبت أن الصدق مازال عملة رائجة بشرط أن يتمسك به صاحبه، وأن مصر مازالت قادرة على إبهارنا بأبنائها المخلصين.