كتبت أمس عن أهمية أن تتبنى الدولة مشروعا ثقافيا تنويريا حضاريا من أجل ترميم الشخصية المصرية، وإعادة تأهيلها جماليا وثقافيا، وهى الدعوة التى كتبت عنها مرارا وتكرارا ولن أملّ من تكرارها حتى تجد لها آذانا صاغية وتصبح النهضة الثقافية هدفا موازيا للنهضة الاقتصادية، فإذا كان الاقتصاد هو المسؤول عن توفير سبل الحياة المادية للمواطنين فالثقافة هى المسؤولة عن توفير سبل الحياة الوجدانية والروحية للمواطنين، وجسد بلا روح مصيره التحلل، وروح بلا جسد مصيرها الضياع، ومصر لا تحتمل الآن أن تتحلل وتتفكك أو أن تضيع وتذوى.
لن أدعوك إلى تخيل أمر غير موجود، ولن أجهد ذهنك فى أن ترسم صورة لمصر إذا ما أصبح لدينا مشروع استراتيجى ثقافى وجمالى، فما عليك إلا أن تستدعى صورة لمصر فى الخمسينيات لتعرف ماذا يمكن لمصر أن تكون، وإن كنت تريد أن ترى نموذجا حيا لفعل الفن فى المدن وانعكاس هذا الأمر على الناس فما عليك إلا أن تتأمل ما يحدث فى مدينة شرم الشيخ الآن استعدادا لاستقبال المؤتمر الاقتصادى المصرى العالمى، فقد أثبتت هذه التجربة الحية ما كنا ننادى به طوال السنوات الماضية من ضرورة أن تصبح الثقافة كالماء والهواء، وأن نساعد الناس على اكتشافها وتذوقها والاستمتاع بها، ولا يملك الواحد أمام تجربة كهذه سوى الإشادة باللواء خالد فودة محافظ جنوب سيناء، على إتاحة الفرصة لنخبة من أهم فنانى مصر ليساعدوا «مصر» فى الظهور بمظهر حضارى راق أمام الوفود القادمة لمدينة شرم الشيخ من مختلف أنحاء العالم، ليثبت أن الثقافة تحتاج إلى صانع قرار واع يقرر أن يستبدل الجمال بالقبح وأن يطرد العشوائية ممهدا الطريق للتناسق والأناقة.
على مدار الأيام الماضية كانت «كتيبة الفن» تجول فى أنحاء شرم الشيخ، ترى المدينة بعين فنان وتعيد تشكيل مظاهرها الجمالية بعيون خبيرة، درست الجمال وتمرست على صناعته، كتيبة يقودها فنان كبير بحجم «أحمد شيحة» وفى عضويتها العديد من الفنانين الجادين المجتهدين، مثل محمد طلعت وشاكر عبد اللطيف وإبراهيم غزالة وسمير صبرى، تولوا مهمة تحضير مدينة شرم الشيخ لاستقبال هذا الحدث المهم فأثبتوا أن الفنانين إذا دخلوا قرية جملوها وأخرجوا أروع ما فيها، فصار للمؤتمر الاقتصادى بعد ثقافى فنى، عبر استضافة معارض الفن التشكيلى واستعارة أعمال فنية مبهرة لتجميل الصالات الرئيسية التى سيتوافد عليها حضور المؤتمر، واستعارة أعمال نحتية من سيمبوزيوم أسوان لإضفاء اللمسات الفنية على ساحات «مدينة السلام» والاستعانة بالفرق الموسيقية والاستعراضية للتأكيد على هوية مصر الحضارية، فنانون حاولوا بقدر استطاعتهم أن يظهروا مدينة شرم الشيخ بمظهر يليق بمصر وتاريخها وفنها، مؤكدين أن مصر ماضٍ مجيد وحاضر مبهر فقط حينما يحصل الفنانون على فرصة حقيقية فى ظل قيادة سياسية واعية.