نظر فى المرآة فوجد شيب الثمانين وضعفه قد تسلل إليه.. نظر من شرفة منزله إلى المول الكبير المجاور لهم.. رأى طوابير طلاب الجامعات يدخلون ويخرجون من المول.. ملّ من رؤية هذا المنظر كل يوم منذ بداية العام الدراسى.. قال لنفسه: إذا كانت هذه الآلاف من طلاب الجامعات يأتون إلى مراكز الدروس الخصوصية الجامعية فى هذا المول وحده، فكيف ببقية مقرات ومراكز الدروس الخصوصية الجامعية؟، ومن الذى يذهب للجامعة ويدرس فيها؟، وأين مجانية التعليم فى مصر؟، وأين حب الطلاب للعلم وأكثر التلاميذ يذهبون للدروس دون حتى ورقة ولا قلم «رايح باشا يعنى»؟!
كان يظن فى البداية أنهم طلبة الكليات النظرية فحسب، مثل التجارة والحقوق والآداب، لكنه أصيب بالدهشة حينما رأى وقابل طلابًا من كليات الهندسة والصيدلة والطب.. تذكر كيف أصابته الصدمة حينما رأى بعض طلبة كلية الطب يأتون بانتظام لمراكز الدروس الخصوصية.. ظن فى البداية أنهم يتناولون حبوب فياجرا الدروس الخصوصية فى المواد الأكاديمية فحسب، لكن خاب ظنه حينما علم منهم أنهم يأخذون دروسًا خصوصية أيضا فى الجراحة والباطنة وطب الأطفال فى أماكن أخرى.
عاد بذاكرته إلى شبابه وصباه حينما كان طالبًا فى كلية الطب.. كان الأستاذ بنفسه يدرّس «السكشن»، أما الـ «Round» فكان يعطيه مدرس على الأقل.. تذكر كيف كان رئيس قسم الصدر بنفسه يدرّس فى «السكشن»، وكيف كان أستاذ الجراحة بنفسه يدرّس «السكشن»، أما الآن فكل الأساتذة والأساتذة المساعدين والمدرسين وأحيانًا المدرسين المساعدين ينتقلون من مستشفى خاص إلى مستشفى خاص آخر، ومن عيادة أو مركز خاص إلى مركز آخر، كأنهم «يقلبون عيشهم»، وبعضهم أصبح يتاجر فى الأراضى والعقارات مع مهنة الأستاذية فى الطب.. هؤلاء لا يشغلهم اليوم المريض الفقير الذى تعلموا فيه يومًا من الأيام، ولا يذهبون للمستشفى الجامعى إلا نادرًا، فهم دومًا بين المستشفيات الخاصة منذ الساعة العاشرة صباحًا حتى منتصف الليل، وبعد هذه الرحلة المضنية يذهب إلى بيته جثة هامدة لا حراك فيها ولا حياة حتى الصباح لتدور طاحونة حياته دورتها من جديد، فلا اهتمام بالبحث العلمى، ولا بتعليم الأجيال الجديدة، بدءًا من البكالوريوس وحتى الدكتوراة.. تذكر أن ابنه أستاذ فى كلية الطب، لكنه ليس مثلهم، كما أنه لم يكن يومًا مثل هؤلاء.. تذكر فجأة كيف أنه عاش زمنًا كان فيه أمثال د/ إبراهيم بدران يتقاضى وهو مدرس للجراحة فى قصر العينى أقل من ستين جنيهًا، وكان هو وأساتذته وتلاميذه يحضرون يوميًا نهارًا، وقد يحضرون ليلاً لإجراء الجراحات المعقدة والطارئة، وكان للأستاذ المساعد فى الجراحة نوبتجية فى المستشفى الجامعى لإجراء الجراحات المعقدة.
والآن تذهب للمستشفى الجامعى عصرًا فلا تجد أستاذًا أو مدرسًا أو مدرسًا مساعدًا، ولا تجد إلا النائب الجديد.. تذكر كيف أن المرضى كانوا يأتون إليه فى الثمانينيات والتسعينيات ليتوسط لهم كى يهتموا بهم فى المستشفيات العامة والجامعية، واليوم يأتى إليه المرضى ليوصى عليهم فى المستشفيات الخاصة التى يدفعون فيها آلاف الجنيهات.. تذكر أيضًا أن المرضى يأتون إليه هذه الأيام ليتوسط لهم عند بعض الأساتذة لكى يقدم موعد فحصهم لأقل من نصف شهر لصعوبة حالتهم المرضية، وكأن هذا الأمر يحتاج إلى واسطة و«كوسة» فى مصر المحروسة.. تنهد بعمق وأغمض عينيه كأنه لا يريد رؤية الواقع الأليم الذى يعيشه.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة