وحكى لى «ألبرتو» بتفصيلات أكثر عن «مونتانيا»، وفيما يبدو أن هناك من أطلق عليها هذا الاسم «مونتانيا» كما فهم منها هى نفسها لضخامتها مثل الجبل، ومع ذلك لم تتركه هى يرحل عن شقتها الصغيرة الضيقة طوال هذه الأيام الثلاثة، وقد شربا فيها معا عدة زجاجات من النبيذ البرتغالى وهما ما بين الفراش والمطبخ، حيث الأحضان الملتهبة والطعام الشهى الذى تجيد «مونتانيا» إعداده، وبالرغم من ضخامة جسدها فإنها كانت تتحرك بين أحضانه فى الفراش كحركة طائر «بيكوفيرميالى» فى الفضاء بمنقاره الأحمر، وجسده الأبيض المنقرش بالنقط السوداء والرمادية، والذى يبنى أعشاشه على أشجار الفلين بالقرب من شاطئ البحر فى «كانيكال»، وبالرغم من كل المشاعر الملتهبة التى منحته «مونتانيا» إياه، والنبيذ الذى شربه، وكمية اللحم التى أكلها، فإنها لم تأخذ منه «سكودو» واحدًا، ليس لأنه لم يعرض عليها، وقد عرض عليها بالفعل، لكنها رفضت وبكت كثيرًا بحرقة صادقة، ولامته على ذلك، لأنها شعرت بالإهانة عندما عرض عليها النقود.
لم تكن حكاية «ألبرتو» مع «مونتانيا» مسلية فقط، بل كانت ممتعة أيضًا، وعندما قلت له ذلك قال إنه سوف يأخذنى إليها عندما يذهب لوداعها قبل أن أصحبه إلى «كانيكال» حيث تقيم أسرته، وهنا سألته عن أى «كانيكال» يتحدث، أليست عائلته فى لشبونة، وكما لو كنت قد ضغطت على جرح فى جسده، فقد اكتست ملامحه بتوتر مفاجئ مختلط بحزن حقيقى، فاعتدل فى جلسته، وأخذ يحكى عن كراهيته، وفى الحقيقة عن عدم حبه الكافى لهذه المدينة «لشبونة»، وعن عدم إعجابه بنادى «بنفيكا»، بل وكرة القدم عامة، فهو ليس من مشجعى كرة القدم، كما أنه لم يلعب هذه اللعبة السخيفة فى طفولته مثل كل هؤلاء البرتغاليين الكاثوليك الذين يعشقونها، وتقدس غالبيتهم نادى «بنفيكا»، ويضعونه من حيث التقديس فى المرتبة التى تلى «الروح القدس» مباشرة، فهو لم يلعب فى طفولته سوى لعبة «الهوكى» التى يعشقها إلى حد الوله فى شوارع بلدته «كانيكال» بشوارعها الواسعة المطلة على المحيط الأطلنطى الذى يحيط بها من كل الجوانب تقريبًا.. إنها «كانيكال» فى جزيرة «ماديرا» التى بكى أهلها كلهم فى الميدان العام عند كل هزيمة لجيش البرتغال فى كل الهزائم المتتالية التى مُنى بها الجيش البرتغالى فى كل المستعمرات التى كانت تمد البرتغال باللبن والعسل، وكان آخرها الهزيمة المذلة منذ أربع سنوات فى الهند، والتى بمقتضاها اضطرت البرتغال للانسحاب من الهند وتسليمها للإنجليز، ومرغوا فى الأرض كرامة أنطونيو دى أوليفيرا سالازار الذى رفض أن تتخلى البرتغال عن بقية مستعمراتها رغم مطالب سكان هذه المستعمرات ونداءات الأمم المتحدة، بل إنه أطلق على هذه المستعمرات اسم «ولايات ما وراء البحار»، ولقنه المتمردون فى المستعمرات البرتغالية السوداء فى أفريقيا درسًا بليغًا فى التضحية من أجل الأوطان، بالرغم من أنه أرسل كتائب البرتغاليين لمحاربة المتمردين، فقُتل الآلاف من الطرفين فى مذابح رهيبة، وعندما هزمه الهنود الهزيمة الأخيرة التى أيقن بعدها أنه خسر كل هذه المستعمرات أصيب قلبه بعطب شديد مازال، وسوف يموت قريبًا دون أن يجد شخصًا واحدًا فى البرتغال كلها يبكى عليه، حتى لو بنى ألف جسر مثل جسر «بونتى سالازار».. بكى «ألبرتو» بكاء شجيًا وهو يحدثنى عن «كانيكال» فى جزيرة «ماديرا»، وقبل أن ينهى حديثه عنهما بدأ بكاؤه يخفت إلى أن كف تمامًا، وبدا حزينًا وهو يقول لى إنه يمكننى أن أصحبه إلى «كانيكال» عندما يصرّح له المهندس الأول بإجازة لمدة عشرة أيام، وعرفت فى هذه اللحظة أن السفينة «أرياس» البنامية التى ترفع علم البرتغال سوف تبقى فى ميناء «لشبونة» لمدة خمسة عشر يومًا أخرى على الأقل.. وللمذكرات بقية.