من الضرورى أن يؤمن «القوميون الجدد» تماما بالحرية، ويعلموا أن غيابها ساهم فى تردى أحوال النظام العربى، وساعد على ارتفاع درجة قابليته للاستعمار. كما أن عليهم أن يوجهوا جهدهم أولا إلى ترتيب البيت العربى من الداخل، حجرة حجرة، أو دولة دولة، عن طريق المضى قدما فى الإصلاح السياسى والاقتصادى والثقافى. فالديمقراطية أول علامات النجاح على إمكانية استعادة العرب حيويتهم فى النظام الدولى، لأنها ستجعل القرار فى يد الشعوب، وليس فى أيدى سلطات مستبدة، أو «ملوك طوائف جدد» باعوا السيادة الوطنية والاستقلال من أجل البقاء فى الكراسى أطول فترة ممكنة، وفسدوا وسرقوا مقدرات الأوطان وثرواتها، ودفعوا العقول العربية النابهة إلى نزيف منظم، أو خمول مزمن. وحيال هذا الوضع الشاذ بات التجديد السياسى «فرض عين» أمام العرب، وإلا مات مشروعهم القومى، المتيبسة مفاصله، والمدفوع عنوة إلى معركة غير متكافئة نسبيا، مع مشروع إقليمى شرق أوسطى، الذى وإن خفت الكلام عنه نسبيا فى الوقت الراهن، فإن تنفيذه ماض فى طريقه المخطط له، من دون هوادة ولا تراجع.
والتجديد السياسى يعنى فى المقام الأول مفارقة مثالب الأيديولوجيات، التى اعتنقتها تيارات قومية عربية عدة، على مدار القرن العشرين، وفى مقدمتها «الناصرية» و«البعثية»، وامتلاك رؤى وتصورات خلاقة قادرة على التكيف من واقع جديد، يختلف كلية، عن ذلك الذى مثل سياقا دوليا ومحليا للحركة والتفكير القومى العربى قبل أكثر من نصف قرن تقريبا. ويحتاج هذه التجديد إلى أمرين أساسيين، الأول هو رؤية يبلورها مفكرون قوميون عرب، ينتمون إلى مختلف المدارس السياسية العربية التى يجمع بينها الإيمان بفكرة «العروبة»، وإن اختلف جدول أولوياتها حول القضايا المحلية والدولية الراهنة، وحول ترتيب سلم القيم السياسية، كأن يقدم البعض الحرية على المساواة، أو العكس، أو يرى آخرون أن العدالة هى القيمة الأولى بالرعاية.
والثانى هو إيجاد مجتمع عربى يؤمن بهذه الرؤية ويطبقها فى الواقع المعيش. فكثير من الأفكار ماتت بين أضابير الكتب، مهما كان حد اكتمالها وحيويتها، بينما نجح من حازوا قدرة على الحركة، حتى إن لم يمتلكوا رؤية سياسية وفكرية مكتملة الأركان، قوية الحجة، فى أن يحشدوا وراءهم جماهير غفيرة، حملت الراية من جيل إلى جيل، وعملت على تطوير التفكير السياسى، أو ترميم إطار عام للحركة، بما يجعلها أكثر ملاءمة لواقع يتجدد باستمرار. ويمكن هنا أن نضرب مثالا دالا فى تاريخنا الحديث على هذا الأمر، فقد غابت التعبئة الجماهيرية وراء أفكار جليلة وعظيمة للإمام محمد عبده، انصرف فيها إلى التوفيق بين العروبة والإسلام بأدلة قوية الحجة وبراهين ناصعة، ضمن مشروعه الفكرى العميق القائم على تجديد الفقه الإسلامى، وإعلاء فهم رسالة التوحيد، ما أدى لغياب أى جمهور اجتماعى لأفكار الإمام سوى أفراد من النخبة الفكرية والدينية المستنيرة.
على النقيض من ذلك اهتم حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان» بحشد الناس حول تصوراته البسيطة والسطحية، التى رمت فى جزء منها إلى استعادة «الخلافة الإسلامية» على حساب التفكير العروبى، وساهمت بذلك فى جدل طويل حول «العروبة» و«الإسلام» كانت حدته قد بدأت تتراجع منذ تدشين «المؤتمر القومى - الإسلامى» فى مطلع تسعينيات القرن المنصرم، ثم أخذت تشتد من جديد بعد استغلال الإسلام السياسى للثورات العربية، فى محاولة تحقيق مشروعه الذى لا علاقة له بمن أطلقوا هذه الثورات ولا بمبادئها وشعاراتها. لكن حشد الجماهير يتطلب أولا وجود فكرة يتبناها تيار سياسى يسعى إلى إنقاذ الوطن العربى، بانتشال الوحدات المكونة له، وهى الدول القطرية، من التخلف السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى الذى تعيشه حاليا. فإذا تعافت الأجزاء أصبح بوسع «الكل العربى» أن يتفاعل على أرضية جديدة جيدة، بما يحصن الدول العربية ضد الهجمة الاستعمارية الحالية، أو على الأقل يجعلها فى منعة من الضغط الخارجى القاسى، الذى يرمى أساسا إلى هضم العرب فى استراتيجيات وضعها غيرهم لخدمة مصالحهم، واستغلوا الثورات والانتفاضات الشعبية فى تحقيق هذا الهدف.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة