«لابد من صنعا، بدون همزة، وإن طال السفر»، وصنعا هى صنعاء، والعبارة متداولة منذ القدم لا أعرف من أطلقها، ومعها عبارات أخرى تقول «الحكمة يمانية»، «والإيمان يمانى». وقد تواتر أن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بشر أصحابه بفتح اليمن، ويقال إنه أوصاهم بأخ لهم مؤمن مسلم آمن وأسلم عن بُعد، أى بالاتصال الروحى بين الرسول وبينه، ووصفه الرسول بعلامة فى إحدى ساقيه مستديرة كالدائرة السوداء التى توجد فى ساق البغل، وقيل إن أويسا القرنى وهذا اسمه كان مصابًا بالبرص وشفاه الله، وبقيت علامة برص فى جلد ساقه كى يتذكر نعمة ربه كلما رآها، ويقال إنه بعد فتح اليمن ومجىء الوفود منها وقف كبار الصحابة يسألون فى تلك الوفود عن الرجل «أويس القرنى»، حتى أعلن عن نفسه فكشفوا عن ساقه فإذا بالعلامة موجودة!
وفى الأنثروبولوجيا يقال إن منطقة جنوب الجزيرة العربية كانت أرضًا خصبة زراعية تجود فيها الحنطة، وكان سكانها من أوائل التجمعات البشرية الكثيفة، ومنها خرجت هجرات بشرية كبرى منذ القدم، ومنها الهجرة التى عبرت مضيق باب المندب واختلطت مع الأجناس الحامية الإفريقية، ثم هبطت أو نزلت مع النهر شمالاً إلى أن التقت بهجرات أخرى كان منها هجرة كبرى جاءت من شمال الجزيرة العربية، واتجهت للوادى أيضًا، وهجرة ثالثة كانت من هضبة التبتسى غرب مصر أى ليبيا أو «لوبيا»، كما كانت تسمى فى الأطالس القديمة.
واليمنيون وخاصة فى مناطق الجبال يميلون للنحافة.. وعيونهم واسعة يشع منها الذكاء، وفى صنعاء يلفظون الجيم غير معطشة، أى مثل أهل القاهرة وبعض المدن «البندر»، ولذلك يقال إن الجيم الصنعانية هى نفسها الجيم القاهرية، وقد شاء الشق الجميل فى حظى أن أحظى بزيارة اليمن مرات عديدة، قد لا أحصيها، وفى كل مرة أتعلم جديدًا، وفى كل مرة تكون نوادر وطرائف أكون طرفًا فيها!
وفى اليمن ومنه ارتبطت بصداقات واسعة العدد عميقة الأبعاد، وفيه ومن أبنائه كان لى رفاق كفاح سياسى ممتد، وفقدت بعضهم بعد أن ذبح على عبدالله صالح حوالى 300 شاب من الحركة الناصرية بعد أن اتهمهم بالانقلاب، خاصة أن تلك الحركة وتنظيمها الوحدوى الناصرى كانت قد تمكنت من أن تضم لعضويتها الشهيد المقدم إبراهيم الحمدى وشقيقه أحمد اللذين تآمر عليهما تحالف بين الغشمى وصالح وقتلا قتلة بشعة وبتدبير خسيس، حيث عمد المتآمران إلى استدراج الشقيقين لمكان متطرف فى العاصمة بدعوى عقد اجتماع تنظيمى سياسى، ثم انقضا عليهما وذبحا معهما مجموعة من النساء الأجنبيات لتظهر الحادثة وكأنها جريمة أخلاقية تمس الآداب العامة! وبعدها ومن فوره انتقم الرئيس اليمنى الجنوبى أيام كان للجنوب دولته المستقلة، وهو سالم ربيع على وكانوا يكنونه باسم «سالمين»، فأرسل مبعوثًا خاصًا ليقابل الغشمى الذى تولى الرئاسة بعد الحمدى، ومعه رسالة أخذها فى حقيبته الصغيرة ودخل إلى الرئيس واستأذنه أن يخرج الرسالة، وما إن فتح الحقيبة حتى انفجرت القاعة بالاثنين!
وأذكر أننى ظللت فترة أوقع مقالى اليومى «عمود» فى إحدى الصحف الإماراتية باسم مركب من اسمين هما «عيسى مقبل»، وكان عيسى هو صديقى القيادى القومى الناصرى اليمنى، عيسى سيف خريج الاقتصاد والعلوم السياسية، وكان من أبرع وأذكى أعضاء التنظيم الذى ضمنا جميعًا آنذاك.. أما مقبل فهو الاسم الثانى لصديقى عبدالسلام مقبل القيادى القومى الناصرى اليمنى أيضًا، وقد استشهدا ذبحًا بالسيف على يد السفاح على عبدالله صالح! وكنت أقصد من الاسمين أيضًا إشارة ضمنية إلى أن الخلاص قريب، لأن عيسى يقترن دومًا بالخلاص والفداء!
كنت قد عرفت هؤلاء الأصدقاء فى القاهرة مطالع السبعينيات، وكنت أحاضر كثيرًا فى الروابط الطلابية العربية «رابطة طلاب اليمن شمالاً وجنوبًا، ورابطة طلاب البحرين.. والكويت.. وغيرها»، إلى أن تمكنا من إنشاء رابطة العرب الوحدويين الناصريين كغطاء علنى للجناح الطلابى فى تنظيم الطليعة العربية، وكان للرابطة مقر فى شارع التحرير بالقاهرة! وكانت لقاءاتنا ومناقشاتنا ممتعة، واستطعت من خلالها أن اقترب من الشأن العربى منذ وقت مبكر!.. وبعد المذبحة تشتت الأصدقاء والرفاق فى الوطن العربى وخارجه، وبقوا فى المنافى سنين طويلة إلى أن حدث شكل من أشكال التسوية مع على عبدالله صالح.. وفى هذا تفاصيل ذات شجون. وفى صنعاء التقيت أصدقائى ورفاقى والتقيت آخرين، كان منهم شيخ مشايخ قبيلة حاشد أكبر قبائل اليمن عبدالله بن حسين الأحمر، وحضرت مجالس الحوار «المقيل»، وكانت وقائع بعضها يهلك من الضحك.. لذا ربما كانت لنا عودة.. أو عودات مع المرحلة اليمنية!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة