التغيير سنة الحياة، ولو استراح الإنسان إلى الثبات والجمود لظللنا حتى الآن مثل «الإنسان الأول» نسكن الكهوف ونأكل مما تجود به الطبيعة ونتكاثر بفعل الغريزة ونبيد فصائل من الحيوانات ونتعرض نحن أيضا إلى الإبادة من قبل فصائل آخرى، لكن ما ميز الإنسان عن بقية «حيوانات الكون» هو أنه سريع الملل، يحب التغيير ويسعى إليه ويصنعه، لكن على ما يبدو فإن اللهفة للتغيير والسعى إليه ليست أمرا غريزيا يشعر به جميع أفراد الجنس البشرى، وهناك ملايين من البشر لا يحبون التغيير ولا يبذلون أى جهد من أجل الوصول إليه، وليس أدل على هذا من وجود هذا الكم المهول مما يمكن أن نطلق عليه اسم «إعلام المقال الواحد» الذى انتشر على صفحات جرائدنا وفضائياتنا بشكل مريع، فنقرأ كل يوم مقالات عديدة ونشعر أننا نقرأ مقالا واحدا ونشاهد كل يوم عشرات الساعات على شاشات الفضائيات فنشعر أننا نشاهد برنامجا واحدا.
أقلام عجاف، وأفواه خاوية، كلهم يقولون نفس الكلام ويسمعوننا نفس الأحاديث، فريق يرى العالم أجمع وفق نظرية المؤامرة، مخطط تقوده تركيا وقطر والإخوان وداعش وأمريكا ومن ورائهم ومن خلفهم إسرائيل، وفريق آخر يرى العالم أيضا وفق نظرية المؤامرة التى يقودها ما يسمونه إعلام الانقلاب ورموز الانقلاب ودول دعم الانقلاب وبالطبع من ورائهم ومن خلفهم «أمريكا وإسرائيل» ولا يكف الفريق الأول عن تحميل الفريق الثانى كل شرور العالم، ولا يمل الفريق الثانى من تحميل الفريق الأول لكى شرور العالم أيضا.
غيبوبة جامعة، سقط فيها الإعلام ويبدو أنه لا ينوى الخروج منها، ولا يجد الفريقان دواء لعلاج الملل الذى قد ينتج عن تكرار «المقال الواحد» سوى اختراع الأكذوبة بعد الأكذوبة ليظل كل فريق على حالة التأهب القصوى، نستعذب الشحن المادى والمعنوى، ونغرق الناس فى التفاصيل الخائبة دون أن نقدم لهم سبيلا للخروج من هذه الدوامة المؤلمة.
لا أريد هنا أن يظن أحد أننى أتجاهل التغيرات التى تمر بها المنطقة أو حتى ما يمكن أن نطلق عليه اسم «مؤامرات» لكنى لا أتخيل أن شعبا يريد أن ينهض أصبح ينام ويصحوا على شىء واحد، وقول واحد ورأى واحد، وليس من بين هذه الخطابات ما يسهم ولو بشكل ضئيل فى تنمية المجتمع أو إصلاحه، وحتى حينما انتشرت موضة «الإعلام التنموى» صار أغلب الإعلاميين يردد هذه الكلمة دون أن يحققها أو حتى يسعى إليها، فيأتون بنفس الوجوه التى لا تعرف سوى الحديث الفارغ عن المؤامرة لتردد نفس الحديث الفارغ عن «الإعلام التنموى» بذات الطريقة وذات المصطلحات.
ليس لديهم سوى الكراهية، ولذلك يوقدون نارا كلما أراد الله إطفاءها، غير مدركين أنهم أول المحروقين بهذه النيران، وللأسف ليسوا آخرهم.