غياب العدالة الاجتماعية هو أكبر كوارث مصر منذ آلاف السنين، حيث تتراكم الثروة فى جيوب حفنة قليلة على الدوام، بينما تكابد الغالبية العظمى مرارات الفقر والعوز وقلة الحيلة، ولما وصل عبد الناصر إلى السلطة فى سنة 1952 حاول ضبط الأمور وتحقيق قدر من العدالة المفتقدة على الدوام... أقول.. حاول، لكن النجاحات كانت محدودة وقصيرة العمر للأسف الشديد.
أظنك تعلم أن هذه النجاحات ارتبطت بمنظومة فكرية وإعلامية وفنية، وراح الكتاب والسياسيون يعبرون عن أحلام العدالة بمقولات عن سحر المجتمع الاشتراكى وضرورته التاريخية، على أساس أن الاشتراكية كانت تعبيرًا عن العدالة كما جاء فى الأدبيات السياسية الرائجة فى خمسينيات القرن الماضى وستينياته، وذكر فى الدستور أن نظام مصر السياسى يتكئ على الاشتراكية العلمية.. وهكذا.
التقط عبد الحليم حافظ هذا الخيط السياسى الجديد، وراح يغنى عن الحلم الاشتراكى الذى انتشرت أنواره فى فضاء المجتمع، وانفعل صلاح جاهين بالتحولات العميقة وآمن بها، فكتب عدة أغنيات معبرة وذكية استثمرها كمال الطويل ومحمد الموجى وصاغاها فى مقطوعات موسيقية بالغة الجمال حتى أصبح المصريون يرددون الأغنيات الوطنية بالحماسة نفسها التى يتعاملون بها مع الأغنيات العاطفية، وصار حليم رمزا للحُسنيين: الوطن... والحب!
اللافت أن كثيرًا من هذه الأغنيات اتسمت بالصدق والرصانة والجدية، فضلا عن الجمال الفنى، وبعض المقاطع يمكن استرجاعها وإسقاطها على عصرنا الحالى نظرًا لجودتها، مثل أغنيتى «صورة»، و«بالأحضان»، لكن أغنية «بلدى يا بلدى» تتأرجح بين الفن الرفيع والابتذال الرخيص، خذ عندك هذا الكوبليه: يقول حليم: «يا اللى عليك تنفيذ مبادئنا إن كنت صغير واللا كبير/ مبادئنا يعنى ثورتنا/ يعنى أمانة وشغل كتير/ لو تخدم باشتراكية/ وبذمة وهمة قوية/ أنا زى ما قال ريسنا/ راح أشيلك جوه عنيا» ثم نأتى إلى الجزء السوقى «وإن خدت المركز جاه/ ولعبت اللعب إياه/ ولا همك غير مصلحتك وظلمت فى خلق الله/ هانقول لك يا عديم الاشتراكية/ يا خاين المسؤولية/ ها نزمر لك كدهو/ ونطبل لك كدهو». وبطبيعة الحال فالموسيقى تواكب الكلام، فتصدح المزامير، وتقرع الطبول لتفضح عديم الاشتراكية فى مقطع غنائى لا يخلو من سوقية!
38 عامًا تمر على وفاة عبد الحليم فى 30 مارس الجارى، ومع ذلك، فإبداعات الرجل ستظل منبعًا خصبًا للتحليل والتأملات، نظرًا لغزارة إنتاجه المتميز من ناحية، وحضوره فى لحظة تاريخية فاصلة من حياة المصريين من ناحية ثانية، وموهبته المتفجرة من ناحية ثالثة!
حقا... الفن الجميل يبقى، حتى لو شط صاحبه أحيانا وهلل صارخا: «يا عديم الاشتراكية»!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة