يتطاول الكثيرون الآن على ابن تيمية ويشتمونه شتماً مقذعاً مرددين «أن فكر ابن تيمية هو السبب فى ظهور القاعدة وداعش وأخواتها».
والحقيقة إن ابن تيمية برىء من فكر القاعدة وداعش وأشقائهم على السواء.. فداعش تكفر معظم المسلمين فى العالم.. فداعش مثلاً تكفر كل جيوش العرب والمسلمين والشرطة أيضاً وتكفر كل حكام المسلمين وأعضاء البرلمان وكل الأحزاب بما فيها الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية مثل حزب النور والحرية والعدالة والبناء والتنمية فى مصر وحزب النهضة فى تونس وحزب العدالة والتنمية فى تركيا.
أما ابن تيمية فهناك نصوص كثيرة له تنهى عن تكفير المسلمين وتضع ضوابط قاسية جداً لذلك.. وهو ينفى فى الكثير من أقواله ما يظنه البعض عنه أنه يكفر المسلمين.
فيقول فى مجموع الفتاوى 3/229 «من جالسنى يعلم منى أنى من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التى من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى.. وإنى أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ فى المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.. ومازال السلف يتنازعون فى كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية».
ويقول ابن تيمية فى مجموعة الرسائل: « ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه.. كالمسائل التى تنازع فيها أهل القبلة.. والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض.. ولا تحل إلا بإذن الله ورسوله».
أما النقطة الثانية فى العلاقة بين داعش والقاعدة وابن تيمية أن هذه الجماعات قرأت فتاوى ابن تيمية عن التتار وجيشهم وحاكمهم جنكيز خان وطبقت وأنزلت هذه الفتاوى خطأ وظلماً على جيوش وحكام المسلمين.. كما أنها نقلت فتاوى ابن تيمية عن الياسق وطبقته وأنزلته على الدساتير والقوانين فى بلاد المسلمين.. والياسق هو كتاب اتخذه جنكيز خان دستوراً للتتار وكان يوهمهم أنه يوحى إليه بتعاليمه.. وكانت معظم تعاليم دستورهم «الياسق» تدل على غلظة وجفوة وخبل فى العقل وكل صاحب رأى سديد يدرك أنها لا تكون أبداً صادرة عن الله سبحانه وتعالى.. ولعل بعض التتار كان يدرك ذلك ولكنه لا يستطيع الجهر بذلك وإلا قطع جنكيز خان رقبته ونكل بأهله وأسرته.
لقد قرر ابن تيمية فى كتبه كفر جنكيز خان وخروجه عن ملة الإسلام التى لم يدخلها أصلاً.. وهذا أمر بدهى إذ أن جنكيز خان كان وثنياً فى الأصل ولم يكن على دين أصلاً... ثم بعد ذلك زعم لأتباعه أنه يوحى إليه.. كما أنه حاكم طاغية جبار كان يدمر البلاد ويسلبها ويحرقها بعد احتلالها.. فى سابقة لم تحدث من قبل فى بلاد المسلمين.. ولم تحدث من الروم أو الفرس فى البلاد التى احتلوها..
كما أن التتار كانوا يحرقون الكتب باعتبارها عدوة لدودة لهم.. ولذلك أحرقوا مكتبة بغداد عن آخرها.
أما داعش والقاعدة فقد قرأت كلام ابن تيمية عن جنكيز خان وسحبت هذه الفتوى على حكام العرب والمسلمين فى غباء منقطع النظير.. فهؤلاء حكام وطنيون مسلمون.. وهذا حاكم وثنى يغزو بلاد المسلمين ويحتلها ويدمرها.. ولم يزعم أحد من حكام المسلمين أنه يوحى إليه.. ولم يأت أحدهم بخرافات الياسق التى سنسرد بعضها.. وكان التتار حتى بعد أن أسلموا يسوون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنكيز خان.. وكان غير المسلمين منهم يعتقدون أن جنكيز خان هو ابن الله.. وأن الشمس أحبلت أمه بدعوى أنها كانت فى خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها فحبلت.. فمن يقيس حكام المسلمين والعرب الآن بجنكيز خان ففى عقله خلل وخبل ويحتاج لمصحة عقلية.
فمن يدرس أبجديات الفقه الإسلامى التى تمنع قياس أمرين مختلفين متناقضين بمقياس واحد.. أو تعطيهما حكماً واحداً.. فهذا خطأ فى الفقه وخبل فى الفكر.
فالمشكلة فى داعش وفساد عقلها وقلبها وليس ابن تيمية الذى دعا إلى حرب جنكيز خان وجنوده رغم أن بعضهم أسلم باعتبارهم محتلين لبلاد المسلمين باغين عليهم.
وقد تحدث ابن تيمية عن جنود التتار وصفاتهم ولكن داعش أيضاً قاست جيش التتار على الجيوش العربية الوطنية دون أن يكون هناك أى تشابه بينهما.. فهذا جيش وثنى جاء من أقاصى الدنيا يدمر بلاد المسلمين ويسفك دماءهم ويفجر بنسائهم.. فهل يشبهه عاقل بجيش وطنى مسلم يدافع عن أرض الوطن ويحمى ترابه وحارب كل حروب الوطن ضد إسرائيل وغيرها.
إن المشكلة هنا ليست فى ابن تيمية ولكن فى هؤلاء الذين لا يعرفون أن نقل الفتاوى من عصر إلى عصر لها ضوابط وشروط كثيرة فصلتها فى كتاب هام لى َّ اسمه «فتوى التتار لابن تيمية دراسة تحليلية».. وقد صدر هذا الكتاب منذ 10 سنوات.
فالفتوى تتغير بتغير الزمان تارة.. أو المكان تارة.. أو الأشخاص ثالثة.. كما أنه لا يمكن نقل فتوى قيلت فى قوم وحال لتطبق على قوم آخرين وحال آخر يناقض الأول تماماً.. ولكن ماذا تفعل مع جهل الداعشيين وأقوامهم وأشباههم؟!
أما الأمر الثالث الذى نقلته داعش والقاعدة عن ابن تيمية هو تكفيره للياسق وتشديده على أنه لا يجوز التحاكم إليه من المسلمين. ولعلى أسوق هنا بعض نصوص «الياسق» دستور التتار ليتبين للناس جميعاً مدى السخف الذى ساقه جنكيز خان إلى التتار بحجة أنه منزل عليه من عند الله.. فقد كان يصعد وحده إلى جبل ثم يمكث فترة ثم ينزل إليهم بتعاليم الياسق على أنها وحى الله إليه.. ومن خالفها فله الويل والثبور وعظائم الأمور.. وهذه بعض نصوصه: من زنى قتل.. سواء ً كان محصناً كان أو غير محصن.. من لاط قتل.. من تعمد الكذب قتل.. من سحر قتل.. من تجسس قتل.. من دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل.. من بال فى الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل.. من أطعم أسيراً قتل.. ومن رمى إلى أحد شيئاً من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده.. من أطعم أحداً فليأكل منه أولاً، ولو كان المطعوم أميراً لا أسيراً.. من أكل ولم يطعم من عنده قتل.. من ذبح حيواناً ذبح مثله.. بل يشق جوفه ويناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولاً.
ومن تأمل النصوص الواردة فى الياسق أدرك سريعاً أنها لا ضابط لها ولا رابط.. وهى إلى التخاريف أقرب منها إلى القواعد والنصوص القانونية.. ومن قرأ بعض هذه النصوص دون أن يعلم مصدرها ظنها بعض كلمات الطغاة الجبارين الذين لا عقل لهم ولا حكمة، أو أنها أقوال بعض البلهاء والمجانين.
هذا بعض ما جاء فى كتاب الياسق الذى اتخذ التتار منه شريعة حاكمة وقانوناً معصوماً مقدساً.. فما كان أحدهم ليجرؤ على مخالفته.. أو يملك حق معارضته.
فهل للقوانين الموجودة فى بلاد المسلمين والعرب أدنى صلة بهذا الهراء؟!.
إن قوانين اليوم لم يزعم واضعوها أو منفذوها أنها مقدسة أو معصومة.. بل كثيراً ما تخضع للتبديل والتغير والتطوير.. ولا يجد أحد غضاضة فى نقدها أو الطعن فى صلاحيتها، بل والمطالبة أحياناً بتعديلها. فأين تلك القوانين من قوانين الياسق المعصومة، التى يزعم أصحابها أنها نزت من السماء؟!.
إن من لديه أدنى معرفة بدساتير بلاد المسلمين اليوم، والقوانين المطبقة فى أرضهم سيدرك بكل سهولة مدى اختلافها عن ياسق التتار.. ولن يصعب عليه ملاحظة البون الشاسع بينهما وبين تخاريف الياسق.
وهذا يجعل من قياسها على الياسق وتسميها باسمه أمراً مجانباً للصواب.. وبعيداً عن الموضوعية والإنصاف.. ونوعاً من التخريف والخبل.
فأما تحريم ابن تيمية للاحتكام إلى الياسق فهذا منطقى جداً ومتسق مع الشريعة أما غير المنطقى فهو أن داعش أخذت أقوال ابن تيمية على الياسق وأنزلته على دساتير الدول العربية واعتبرت الدساتير ياسقاً جديداً وأنه تشريع من دون الله.
إن كل ما قاله ابن تيمية عن التتار يعد صحيحاً وواقعياً وشرعياً.. ولولا فتاوى العلماء مثل ابن تيمية ما نهض أهل الشام لحرب التتار ومواجهتهم وهزيمتهم عسكرياً وفكرياً ونفسياً.. ودخول بعضهم فى الإسلام ورغبة بعضهم فى البقاء كمواطن عادى فى بلاد العرب.
ولكن الخطأ كل الخطأ هو فى العقل الداعشى.. والخلل فى فهم داعش والقاعدة لمثل هذه الفتاوى وسحبها على آخرين فى عصر غير العصر التى قيلت فيه.. وفى زمان غير الزمان التى نسبت إليه.. وفى أقوام يختلفون تماماً عنهم.. وفى دساتير وقوانين لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالياسق.. الذى هو أقرب للحمق والظلم منه إلى الحق والعدل.. ولو أن ابن تيمية نفسه عاش معنا هذه الأيام لقال لداعش وأخواتها: وما حيلتى إذا لم يفهم البقر؟؟؟!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة