أشهد لـ إبراهيم عيسى أنه متكلم متدفق، يمكن أن يستمر فى الحديث ساعات طويلة دون أن يتوقف ليراجع ما يقول، أو يسمح لأحد بمراجعته، وهو يستند فى ذلك إلى ثقافة وإلمام بالموضوعات التى يتصدى للحديث عنها، ودربة مصرية فى الحديث والإشارة والتلميح وتركيب طبقات الكلام، ليصل إلى هدفه صراحة أو يحمله برسائل مبطنة مواربة يمكن أن يعترف بها أو لا يعترف حسب الأحوال.
وأشهد أنى انشغلت لساعات بمونولوج إبراهيم الطويل أمس عن مرحلة التحول التى نمر بها وعن موقفنا البين بين من الدولة الديمقراطية والدولة الاستبدادية، وعن تجديد الخطاب الدينى ودور الرئيس وأجهزة الدولة فى هذا السياق، وتحليله لخطاب الرئيس الأخير فى الكلية الحربية، وأيضًا عن الطريقة التى يمكن أن نشارك بها فى تحولات بلدنا للأفضل.
والحق أننى احترت فى كلام إبراهيم عيسى وفى مونولوجه الطويل المتنوع فى الأهداف والعناصر، فهو طرحها كلها بنفس الحماسة والتدفق، رغم أن منها ما يناقض الآخر، ومنها ما هو غير مفهوم المعنى والمبنى والمغزى، ومنها ما هو "شواش" من الزعيق والاسترسال الذى يمكن أن يفهم منه أنه انتقاد حاد وهجوم على الرئيس وتشريح لمؤسسات الدولة وتغريد خارج السرب يحسب لإبراهيم عيسى، على طريقة "أنا شجيع السيما".
إبراهيم عيسى بدأ مونولوجه بمقدمات منطقية بديهية انطلق منها لإرسال مجموعة رسائل يفهم منها أنه غاضب وأنه مستقل ولا يمشى فى صفوف المطبلاتية والمنافقين، وأنه يستطيع أن يقدم خطابًا معارضًا يستند إلى معلومات ولغة هجومية لا تهتم لا بحكومة ولا برئاسة، وإنما تهتم فى المقام الأول بتنوير الرأى العام.
وهذه المقدمات يمكن تلخيصها فى النقاط التالية: أننا فى مرحلة تحول، وأن المجتمع لم يتغير عما كان قبل 2011، وأن جميع النخب السياسية والثقافية والفكرية تعانى من ازدواجية الخطاب لدرجة الكذب، وأننا فى مفترق طرق بين اليأس والإحباط أو الرضا بسقف متدنٍ للحريات أو تعظيم مظاهر الحرية وتقليل مظاهر الاستبداد.
هذه المقدمات الحماسية التى انطلق منها إبراهيم عيسى لا غبار عليها، ولا يمكن الاختلاف معه جذريًا حولها، لكن الخلاف معه والحيرة فيما يقول تبدأ بعد المقدمات المنطقية، عندما يبدأ إرسال رسائل الغضب المواربة للرئيس والرئاسة ومؤسسات الدولة، حتى لتسأل نفسك وأنت تشاهده، ماذا يريد أن يقول فى النهاية وماذا يقصد من وراء كلامه؟
المستوى الأول من كلام إبراهيم عيسى، يحمل العناصر الآتية: أن هناك مطبلاتية ومنافقين كثيرين فى مصر، وأن أجهزة الدولة مهترئة وأن الرئيس يراهن على مؤسسات الدولة وفرحان بها وأن هذه المؤسسات فاشلة ولا يمكن الاستناد إليها وأن المنافقين فى مؤسسات الدولة يعارضون التجديد والتنوير وينافقون أصحاب الفكر الوهابى وحزب النور، وأن الرئيس سيخسر برهانه على مؤسسات الدولة، وأن تجديد الخطاب الدينى ليس من مسئولية الرئيس أو المؤسسات القائمة، وأنه لا يجب أن نكون مثل المسئولين والموظفين الذين يأتمرون بأوامر الرئيس، إن قال يمين استبداد يتم تبريره، وإن قال يسار حرية يتم تبرير ما يقول أيضًا .
أما المستوى الثانى من كلام إبراهيم فيتضمن أزمة كبيرة فى الضمائر والإشارات والمعانى، يجعل من كلامه غير مفهوم ورسائله غامضة، فتارة نجده يقول إن تجديد الخطاب الدينى ليس مسئولية الرئيس ولا الحكومات، بل هو مسئولية الشعب، ثم نجده يطالب الدولة بتحمل مسئولياتها ويحمل الرئيس مسئولية كل الأخطاء والخطايا الفردية بحكم كونه يملك السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، ثم يهاجم الشعب على طريقة القذافى: "كيف يمكن للشعب المصرى أن يتقدم وهو لا يقرأ شيئًا ويعتمد على "ملخصات"؟ وتارة ثانية، نجده يلمز الرئاسة بأنها سرقت فكرة التجديد الدينى، ويعدد المفكرين الذين أسهموا بجهود فكرية ومواقف سياسية ضد الإرهاب والتخلف والتطرف، وكأن هناك خصومة أو خلاف بين دعوة الرئيس لثورة على الخطاب المتطرف وبين جهود السابقين والمعاصرين من المفكرين
المحير فى كلام إبراهيم عيسى أيضًا، أنه يختزل مؤسسات الدولة فى أخطاء الأفراد العاملين بها، ثم يمد الخيط على استقامته ليحمل الرئاسة والرئيس هذه الأخطاء الفردية كما يحمله نفاق المنافقين وتطبيل المطبلاتية، كأن يحمل وزارة التعليم مثلاً إقدام موظفة على واقعة إحراق الكتب فى مدرسة إخوانية دون أن يذكر أن الوزير أبدى رفضه للواقعة علنًا وأحال الموظفة للتحقيق، ثم يعلن دون أن يهتز له جفن أن مثل هذه الموظفة وأمثالها هى من يراهن عليه الرئيس
ويكرر الأمر نفسه فى خطأ موظف وزارة الأوقاف الذى استبعد ممثلى قطر وتركيا وإيران من مسابقة حفظ القرآن، دون أن يكلف نفسه تحرى ما حدث مع الموظف المخطئ، ولكنه يقفز مباشرة ويحمل الرئيس مباشرة هذا الخطأ معتبرًا أن الرئيس يراهن على مثل هذه الممارسات وفرحان بها ،وهو قول لا يمكن اعتباره نزيهًا أو غير مقصود
الأخطر من ذلك أن إبراهيم عيسى يصطنع خلافًا واختلافًا بين من يسميهم كهنة الاستبداد والتخلف وحاملى لواء التجديد، ثم يضع الأزهر والأوقاف والتعليم فى جانب الكهنة المتخلفين متباكيًا على الهجمة الشرسة ضد المجددين، دون أن يحدد ما هى المعركة التى يتحدث عنها هل هى معركة إسلام بحيرى والحبيب الجفرى وأسامة الأزهرى مثلاً؟ هل هى معركة مليونية خلع الحجاب التى واجهها بعض علماء الأزهر بالاستنكار وتوافقوا فى استنكارهم مع شيوخ السلفية؟
ينطلق إبراهيم عيسى من القشور الرائجة والعبارات المتواترة بالسماع عن التطرف والتجديد ليصل بخطابه الحماسى إلى تعميمات غاضبة لا معنى لها فى الحقيقة إلا قشرة المعارضة وقشرة الهجوم على مؤسسات الدولة وكيل الاتهامات لها وقشرة لمز الرئيس بما ليس فيه، ليخرج بعرض مونودرامى مسرحى هو بطله المغوار الذى يهاجم الرئيس والحكومة والمؤسسات ويستعرض تاريخه فى النضال من أيام مبارك وحتى أهدرت داعش دمه .
هناك قيمة جوهرية غابت عن المونولوج الاستعراضى المسرحى الذى قدمه إبراهيم عيسى أمس، رغم الكلام الكثير المصبوغ بصبغة نضالية ثورية ورغم مظهر الحرص على تقدم البلد، فالإنصاف والموضوعية غائبان عن سياق الحديث، والاتهامات المصاغة ببلاغة ظاهرية وتدفق فى الكلام لا يمكن تصديق أنها لله وللوطن وليست لمجرد الخلاف والمناكفة، والغاية النهائية من وراء الخطاب غامضة، لأنه لا يقول لنا ماذا يمكن أن تفعل الدولة والرئيس وهما يواجهان تطرف المتطرفين وحماقات أدعياء التجديد ومؤامرات الأعداء بالخارج وطابورهم الخامس فى الداخل.
لم يقل لنا إبراهيم عيسى للأسف الشديد حرفًا واحدًا يمكن البناء عليه، ولم يقدم إلا مجموعة من المزايدات والانتقادات السهلة من باب "جر الرجل" لبرنامجه، ولم يفعل إلا الربط بين عبارات واتهامات جزافية ليبدو أنه المعارض الجبار الذى لا يخشى أحدًا حتى لو كان الرئيس، والمفاجأة أنه لا يعرف أن أسلحته القديمة لم تعد فاعلة وأن ما يبهر الناس ويجتذبهم حاليًا لم يعد الصوت العالى المنتقد، وإنما من يساعد بفكرة أو مقترح أو يقدم حلولا بديلة صادقة وقابلة للتنفيذ فى الموضوع الذى يتصدى له.
وأظن أن إبراهيم عيسى لو استمر على منوال المونولوجات والرسائل الغامضة والحماس المصطنع الذى يقدم به قشور أفكاره سيتحول ببرنامجه إلى فرجة مسرحية كوميدية دون قصد منه مهما تحمس وتعصب واسترسل فى كلامه البلاغى الفخم ومهما برع فى الربط بين الشامى والمغربى على أرضية التعسف والاستعراض.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة