يولد الإنسان مثله مثل كل الكائنات، لا يعرف شيئا، لا لغة، ولا علما، ولا دينا، ولا أخلاقا، ويوما بعد يوم يكتسب مهاراته الاجتماعية ومكوناته الثقافية حتى يصبح عضوا فاعلا فى المجتمع، وما دام لكل منا لغة خاصة وثقافة مختلفة وبيئة جغرافية وتاريخية متباينة فيجب أن يكون لكل منا لغة خطاب معينة، من خلالها يخاطب العالم، ومن خلالها أيضًا يخاطبه العالم، ولهذا حرص الفنانون على توسيع شريحة متابعيهم عبر الأزمان، وتنويع طرائق عرض فنهم لكى يحصلوا على أكبر قدر ممكن من الجماهير، كما حرصوا على مخاطبة شرائح الجماهير بلغة يفهمونها، خاصة فيما يتعلق بتوصيل رسالة فنية مباشرة إلى شريحة البسطاء من الناس، وهنا تم اختراع فن المونولوج الذى أخذ على عاتقه من نشأته تقويم السلوكيات الاجتماعية الشاذة ومحاربة آفات الأخلاق وتدعيم التصرفات الجيدة وتحجيم التصرفات القبيحة، وفى هذا الفن العظيم نبغت أسماء مثل محمود شكوكو وإسماعيل ياسين وثريا حلمى وغيرها، لكن للأسف انسحب هذا الفن تماما ضمن قائمة الأشياء الجميلة التى غرقت من حياتنا، ولم تجد يدا واعية تنتشلها من الضياع والغرق. هنا فن يندثر، أو قل إنه اندثر ويحتاج إلى إعادة إحياء، وأننى أرى أن من واجبات وزارة الثقافة أن تحيى هذا الفن من جديد وأن ترعاه وتدعمه نظرا لما يمثله هذا الفن من أهمية كبيرة هذه الأيام التى نعانى فيها من الانفلات الأخلاقى والاضطراب المزاجى، فمن منا لم يحفظ مونولوجات شكوكو وإسماعيل ياسين، ومن منا لم يحفظ «عيب اعمل معروف عيب منتش مكسوف» لثريا حلمى، ومن منا لم يضحك ويبكى ويتعلم ويسعد من هذا الفن المبهج الفتان.نحن نحتاج إلى البهجة كما نحتاج إلى التقويم، وما أطيب التقويم إذا كان آتيا فى صورة غنائية تعرض مساوئك أمامك دون أن تجرح مشاعرك، ودون أن تؤذى طبيعتك الإنسانية، ونحتاج إلى أن يتسع الفن ليغطى كل جوانب الحياة، فنحب بالفن، ونتعلم بالفن، ونعمل بالفن، ونجاهد بالفن، فقد عشنا سنينا طوال، ونحن على وتيرة غنائية واحدة، كل أغانينا نفس الكلمات، ونفس المعانى، ونفس الحالات الشعورية، كل ألحاننا على شاكلة واحدة، خطابنا الفنى موجه إلى شريحة واحدة، وكأن فنانينا يحتقرون من هم دون 15 عاما أو أكبر من 35 عاما من شريحة الطبقة المتوسطة، فلا يؤلف المؤلفون إلا لهم ولا يلحن الملحنون إلا لهم ولا يغنى المطربون إلا لهم، ثم نأتى بعد كل هذا ونلوم على أهالينا إذا ما استمعوا إلى ما يسمى بالـ«فن الهابط».