طالما كانت اللغة "ترمومتر" الشعوب، فإن كانت بخير كان فى الغالب أصحابها بخير وعلى أمر من القوة، وإلا كان العكس، تصعد وتهبط وتمر بكبوات أحيانًا ويشتد عودها "تزهو وتزدهر" أحيانًا حسب حال متحدثيها، فتندثر مفردات وتعبيرات وتطفو أخرى ويقوى الأدب فى مرحلة ما عن غيرها من حكم سالف أو لاحق فى نفس الدولة.
وللحق فإن ما وصلت إليه لغتنا العربية اليوم من ضعف وترهل خير دليل على حالنا، لكن ما علاقة الأمر بالدراما السورية؟ تعال معى.
الدراما السورية -التاريخية منها خاصة- قدمت خدمة جليلة للغة العربية مفعمة بالحيوية والديمومة، وأثبتت أن خدمة اللغة لا تكون من خلال الأبحاث والكتب بل ومجامع اللغة فحسب، بل يمكن خدمتها أكثر من خلال الشاشة الفضية وتوثيق ما فى الكتب من درر صوتا وصورة، تستطيع وأنت تشاهد أيًا من المسلسلات التاريخية السورية أن تسمع تعبيرًا بليغًا أو لفظًا عذبًا يطربك -وإن كنت من متذوقى اللغة- ستقول منبهرًا: "الله" وتتساءل: لم لا نستخدم مثلها فى حياتنا اليومية؟ وأين ذهبت هذه اللغة الجميلة الآن؟ ومن الذى ارتكب هذا الجرم بحق لغتنا وأوصلها لهذه الحال؟ ولو كنت من هواة التحدث بالعربية فستنهل من معين الدراما السورية ما تيسر لك، فحقيقة هى فيها ما يكفى لكل التعبيرات المزاجية، فيها ما يمكن أن تعبر به عن الحلم وعن الغضب وعن التهور وعن الحكمة والشجن والفرح.. إلخ.
أما إذا كنت من الباحثين أو المهتمين بالأدب وتاريخه، فقد وجدت مبتغاك، خاصة أنه ليس الخبر كالعيان، فأنت درست الكثير وقرأت الكثير فى الأدب العربى وأخباره، لكن عندما ترى مثلاً المناسبة التى قيل فيها شعر لعنترة أو الشنفرى والمهلهل بن ربيعة وغيرهم خصوصا أن ما يخص الأدب واللغة فى هذه الأعمال مستقى مما فى بطون أمهات الكتب، وإن كان تم تطويعه فى السيناريو حسب رؤية فنية للقائمين على العمل لكن فى النهاية مؤداها واحد، كان الأمر بالنسبة لك أوقع على نفسك وأكثر إمتاعًا وقدرة على حفظ هذا الشعر وفهمه، وياحبذا لو كانت تعنيك حياة شاعر معين وكيف أثرت على شعره ووجدته فى أحد هذه الأعمال، فاللغة العربية الأصل فيها السماع، فما بالنا إذا جمعنا السماع والمعاينة معًا؟!
تستطيع أن تلمس مبارزات الشعراء وملاكماتهم ونقدهم لشعر بعضهم البعض كمناظرات المتنبى وخصومه فى بلاط الأمراء فى مسلسل المتنبى، وهو أمر مهم بالنسبة لدارسى النقد الأدبى، إذا تعتبر الإرهاصات الأولى للنقد العربي، ومثل هذا النقد ونقد الفترات التى قبله يعرف بـ"النقد الانطباعى أو الذوقي" عند العرب، ولا غنى لدارس النقد والأدب عن دراسة هذه المرحلة.
وما دام الحديث ذا شجن فلا يفوتنا أن نذكر أن دارس تاريخ الأدب مهم بالنسبة له معرفة الحالات الاجتماعية والسياسية والدينية والحضارية... إلخ، للمرحلة محل الدراسة، وهو موجود تظهره الدراما السورية بحرفية عالية.. كما أنك تستطيع أن تتعرف على مثل جديد من أمثال العرب ومضرِبه، وكيف كانت المكاتبات والرسائل فى العصور الإسلامية الأولى كما فى مسلسل عمر مثلا .
لا أبالغ، إن قلت إن الدراما السورية ينبغى أن تضم كمصدر من مصادر البحث فى اللغة العربية وتعلمها، ولا أبالغ إن طلبت من محبى اللغة العربية ودارسيها على وجه الخصوص، مشاهدة الدراما السورية، أكاد أخال أستاذًا جامعيا للغة العربية يرشد طلابه إلى مشاهدة مثل هذا النوع من الدراما والإفادة منها فى دراستهم.
ولا نوفى الأمر حقه دون أن نتقدم بالشكر لكل من أسهم فى خروج مثل هذه األعمال إلى النور "عنترة بن شداد، عمر بن الخطاب، صقر قريش، أبو الطيب المتنبي، ربيع قرطبة... إلخ" إلى النور وقدموا لنا هذه الخدمة الجليلة، واسمحوا لى أن أخص بالشكر الممثل السورى المميز بالنسبة لى -عالميًا- محمد مفتاح.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة