«للمخترعين شأن كبير فى تطوُّر حضارة المستقبل، ولكن لا شأن لهم مباشرًا فى تاريخ الأمة السياسى، لأنهم لا يملكون من الصفات النفسية والخلقية ما يمكنهم من إقامة مذهب، أو فتح مملكة».
لا شك فى أن للقوى المادية أثراً بليغاً فى حياة الأمم وتاريخ الشعوب، غير أنه إلى جانب القوى المادية نجد قوى غير مادية كان لها شأن أعظم، وقد حاول الفليسوف الاجتماعى الفرنسى «جوستاف لوبون» فى توضيح سلطان هذه القوى النفسية فى كثير من كتبه ولا سيما فى كتابيه: روح العصور الحديثة وتطور هذا العالم، فقد بيّن أن العالم على الرغم من الاهتداء إلى حقائق مادية ثابتة استنبطها أهلها من ظلال المخابر، لا يزال خاضعاً لطائفة من القوى الصوفية، التى تكون فى صورة معتقدات دينية تارة، وتارة أخرى فى صورة معتقدات سياسية لا سبيل إلى مجادلة أصحابها فيها، ولقد خضع العالم لهذه القوى من مبدأ التاريخ، ونشأت عن إيمان بعض الأمم بهذه القوى كإيمان اليونانيين والرومانيين بإله الآلهة «جوبيتر» وإيمان البوذيين ببوذا حضارات بارعة، وملأت العالم من مصر إلى الهند بآلهة عظيمة، وأخرجت من العدم أهرام مصر ومعابد الشرق الأقصى والكنائس وطائفة من عجائب الفن، ولولا سيطرة العوامل النفسية على البشر لبقى الناس فى ظلمات الكهوف
والمقصود بالصوفية عند «جوستاف لوبون» الإيمان بسلطان فوق الطبيعة، تتمتع به مرّة آلهة الشعوب ومرّة المعتقدات والمذاهب، فالرجل الخاضع لمعتقد دينى إنما هو صوفى، و«روبسبير» الذى كان يقطع الرؤوس فى الثورة الفرنسية لإقامة رسم الفضيلة كان صوفياً، والشيوعى الذى يعتقد أن نهج «كارل ماركس» يجعل من هذا العالم فردوساً إنما هو صوفى، ومتى استولى على قلب الرجل معتقد صوفى أصبحت لهذا الرجل قوى عظيمة حتى إنه ليُضحّى بماله وبحياته فى سبيل معتقده، فالعالم لا تنقطع حاجته إلى توجيه حياته نحو سلطان عال يعتقد الناس أنه معصوم، والشعوب ما تكاد تطرح آلهتها التى كانت تؤمن بها حتى تفتش لها عن آلهة آخرين، وإلى جانب السلطان الصوفى الذى يقود البشر سلطان آخر يقود العواطف والأهواء يضعف معه سلطان العقل مهما يعظم شأنه، فالناس يسيرون فى الحياة عادة بأخلاقهم لا بعقولهم، والخلاصة هى: أنه قد يتوقف مستقبل الأمم على عوامل مادية ولكن العوامل النفسية تظل أقوى منها، إن نسيج الأمم مؤلف من أخلاق أفرادها ومن صفات نفوسهم، ومهما يكن لطيارات السماء، ولجيوش الأرض، ولغواصات البحار أثر فى هذا النسيج، فإن للأخلاق وللنفوس أثراً آخر فيه ليس بقليل الشأن، العوامل النفسية الخاصة بكل أمة هى التى تميز مصير هذه الأمة أكثر مما تميزه العوامل المادية، قد يُغلب شعب فى معركة من المعارك بفضل عوامل مادية وقد ينسلخ منه جزء من وطنه، ثم ينتعش هذا الشعب وينهض بعد هذه المصائب إذا كانت العوامل النفسية فيه قوية كما فعل الشعب الألمانى بعد الحرب العالمية الثانية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة