«دى مش دبانة.. دى قلوب مليانة».. هكذا يقول المثل، وهكذا جرى التعامل مع قضية الفوسفات التى تحولت إلى جدل سياسى، بلا بداية ولا نهاية. وبين التهويل والتهوين تجاهل المتجادلون مصالح المواطنين، وحقهم فى أن يطمئنوا على حياتهم ومائهم.
صندل محمل بـ500 طن من الخامات الفوسفاتية غرق فى النيل، الطبيعى أن يكون رد فعل الحكومة واضحًا.. لجنة من المتخصصين فى الرى والتعدين والكيمياء تعاين وتصدر بيانًا للرأى العام حول الأمر وتأثيره وأخطاره على مياه الشرب والنيل والزراعة والصحة، ما جرى أنه تم الصمت ليوم كامل، وهو وقت طويل فى زمن الأخبار والإنترنت والفضائيات، ومئات الخبراء فى الفوسفات والطيران والرى والحروب.
التأخر فتح الباب للفتاوى الكيماوية والمائية، وتحولت مواقع التواصل إلى منصات لكبار خبراء الفوسفات الغارق، وارتبطت الآراء بموقع كل طرف، وليس من الحدث، حتى الخبر نفسه تم تحويره بإعلان أن الصندل الغارق يحمل سمادًا ومواد كيماوية، وأننا أمام كارثة، وأن هناك تكتمًا وإخفاء مصحوبًا بحديث عن إغلاق محطات المياه كإجراء احترازى.
بعد يوم كامل خرجت الجهات الرسمية لتعلن أنه لا خطر، وأن الخام يحتوى على نسبة أقل من الخُمس، وأنه غير قابل للذوبان، وسيتم انتشاله لقيمته الاقتصادية، لكن بعض خبراء «التهويل» سارعوا بتبنى الأسوأ، وأعلنوا أن الحكومة تتكتم وتكذب، مستندين إلى تراث من عدم الثقة يصعب كسره.. المدهش أن بعض المتخصصين فى الكيمياء والتعدين أيدوا البيان الرسمى، لكن بلا جدوى.
وأصبحنا أمام فريقين، أحدهما يريد مصيبة ويشبع فيها لطم، وآخر يداه فى ماء بارد، وبين «المهولين» و«المهونين» غابت الحقيقة، ورأينا خلال ساعات مئات الخبراء فى الفوسفات الغارق والتعدين والنيل والجيولوجيا، كل منهم يريد البرهنة أنه على حق.
وأصبح من يتبنى رأى التقليل من الخطر يصبح منافقًا وسلطويًا، ومن يطالب بالحقيقة هو سوداوى وإخوانى، واضطر وزير الرى لإعلان أنه مستعد لشرب الماء للتأكيد على صلاحيته، وقال البعض إن النيل أساسًا ملوث بكل الصرف الصحى والصناعى والزراعى والكيماوى، و«ماجاتش على شوية فوسفات». ولم يكن موضوع الفوسفات هو القضية، لكن الاستقطاب الذى كشف أن لدينا خبراء فى الفوسفات أكثر من الفوسفات نفسه، وأن انقلاب الفوسفات فى الماء ينتج جدلًا سياسيًا حادًا لا ينتهى، طبقًا للمثل «دا مش فوسفات.. دى قلوب مليانة»، وإلى أزمة جديدة.. وهو جدل لا يتوقف على الفوسفات، ويمتد لكل القضايا التى تؤكد أننا فقدنا القدرة على الحوار، وسط سعار المتعالمين والخبراء الفوسفاتيين.