فى كل المناسبات الوطنية الكبيرة نحتفل ونحن ندرك تماما أن من حقنا أن نرفع الرأس عاليا، ننشد الأغانى، نغرق فى الذكريات، نستعرض الأبطال، نكرم الرموز، لكن للأسف لا نتذكر أبطال هذه المناسبات الكبرى إلا بشكل موسمى، نستضيفهم فى التليفزيونات أو الصحف، ثم ننساهم ليغرقوا فى متاهة الحياة، بعضهم يموت جوعا، وبعضهم يموت مرضا، وبعضهم يموت كمدا، ولعل المثال الأبرز على هذه الحالة المرضية حالة البطل المصرى «عبدالعاطى» صائد الدبابات الذى رثاه شاعرنا الأكبر «عبدالرحمن الأبنودى» فى قصيدة فاتنة بعنوان «الاسم المشطوب» قال فيها: «أنت نويت.. وأتارى فيه غيرك نوى.. ناس عليو فوق.. وسابوك بتبحث فى الفتات.. عن الدوا.. لكبدك اللى ما احتملش فانشوى.. يا صاحبى موت أرجوك.. وموت الغضب.. الاسم كان هوه الهدف.. رفرف على مرمى النيران.. وكأنه قاصد ينضرب.. الاسم ضلم وانشطب».
وكما خلد الأبنودى مأساة موت البطل المصرى «عبدالعاطى» جسد أيضا ملحمة لمواطن مصرى آخر لا يقل بطولة وعظمة عن «عبدالعاطى» هذا الشخص هو «حراجى القط» ذلك العامل المصرى الذى أسهم فى بناء السد العالى مع آلاف غيره من أبناء هذا الوطن الأشم، وحينما سألت شاعرنا الأكبر عن هذه الشخصية الفذة قال لى إنه توفى منذ سنوات قليلة بعد صراع طويل مع الحياة انتقل على أثره من بلدته بأقاصى الصعيد إلى مدينة السويس، وحينما سألت عن أبنائه أو عن عائلته، لم أعثر على نتيجة تذكر، كأن هذه الشخصية المصرية العادية أرادت طواعية أن تحتفظ بأسطوريتها، وأن تغيب عن الذاكرة مثلما غابت شخصية المصرى الذى حفر قناة السويس، والمصرى الذى بنى الأهرامات.
فى 14 مايو المقبل تحتفل مصر باليوبيل الذهبى لبناء السد العالى، ومن أجل هذه المناسبة تستعد مصر لتكريم عدد من العلماء الروس الذين شاركوا فى بناء السد، فى سياق اهتمام مصر المتجدد بروسيا، لكنى أجد فى الاحتفال بالسد مناسبة عظيمة لإعادة الاعتبار للعامل المصرى ومساهمته فى بناء مصر الحديثة، وأجدد هنا الدعوة التى أطلقتها فى برنامج «صباح التحرير» مع الإعلامية المتميزة «جيهان منصور» منذ أيام لعمل تمثال للعامل «حراجى القط» الذى أصبح أيقونة للسد العالى والذى جسد بنضاله الوطنى الإيجابى ملحمة شعبية كبيرة جعلت من مصر دولة كبيرة قادرة، لكنها للأسف ظلمت أبناءها الذين ضحوا بالغالى والنفيس من أجل تحديثها، وقد آن الأون لنرفع هذا الظلم، ولو معنويا.
نشر هذا المقال منذ ما يقرب من عام، والآن وقد مات حراجى القط كما مات شاعرنا الأكبر عبدالرحمن الأبنودى، ألم يأن للذين حكموا أن يكرموا مصر وأبناءها وشعراءها؟