.هى «504» ومافيش غيرها، لا تحاول التفكير، هى دى العربيات ولا بلاش.. هكذا كانت النصائح تنهمر على مسامع الراغب فى شراء سيارة قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان من الطبقة المتوسطة وتريد شراء سيارة؟! ليس أمامك إلا الـ«504» وخياران أو ثلاثة لا يزيدون عن ذلك ويرتبطون بشكل وثيق بمستواك المادى. تمر الأيام وتتوالى الأعوام ورغم تنوع الاختيارات وكثرة الموديلات المطروحة فى الأسواق إلا أن المبدأ يظل كما هو.. عليك وعلى الماركة الفلانية ولنسمها الماركة «س» حتى لا نقوم بعمل دعاية سلبية أو إيجابية لمنتج معاصر ليست من مقاصد المقال المهم أن السيارة «س» قد حلت محل الـ«504».
خليك فى «س».. سيبك من الكلام الفاضى التانى ودعك من سائر الموديلات الأخرى.. دعك من كونها لا تجدد نفسها تقريبا ومن كون الفوارق لا تُذكر بين موديل السنة وموديل عشر سنوات مضوا، وأن الشركة الأم قد فهمت طبيعة المستهلك المصرى الذى لا يهوى التغيير وربما يخشاه فقررت ألا تزعج نفسها بالتطوير، وتقدم له نفس المنتج النمطى دون اعتناء بالتحسين الذى تحرص عليه فى الدول الأخرى. كل هذا لا يهم.. المهم إنها «س»، وأن كل «الميكانيكية» فاهمينها وراضيين عنها وإنك لو فكرت فى يوم ما أن تبيعها فستجد ألف مشترٍ، إما «س» وإلا فلا.. وممكن نتساهل قليلا ونسمح لك بماركة «ص» أو «ع»، وكفاية أوى لحد كده، إياك أن تجرب أى موديل آخر من عشرات الموديلات الأخرى التى يذخر بها السوق، إياك أن تغامر، إوعاك تفكر، السوق عايز كده. نفس الموضوع تكرر فى الهواتف المحمولة رغم التنوع الرهيب أيضا إلا أن نوعا بعينه قد اكتسح السوق المصرية من جديد بيهنج. طيب شحنه سيئ.. طيب عيوبه كثرت.. طيب هناك ماركات أخرى تكتسح العالم منذ أعوام، طيب جرب، فكر، ابحث، برضه لا.. هى الماركة الفلانية التى ورثت الماركة العلانية وإلا فلا... قس على ذلك كثيرا من الأمور فى حياة المصريين حالة واضحة من الانهزام للسوق وإملاءاته، نفس الانهزام ستجده فى طموحات الوظائف وأسواق العمل وتنسيق الكليات حتى فى المطاعم والأكلات أيضا يغلب عليها نفس الطابع الانهزامى، بل أيضا فى الكلمات والمصطلحات. ممكن تكون «س» سيارة رائعة لكن هل يُعقل أن تظل رائعةً وحدها وعلى الدوام؟ وممكن يكون الجهاز الذى أشرنا إليه جهازا جيدا.. لكن مش جايز يكون هناك جهاز أجود؟!
وممكن تكون كليات القمة مهمة ومفيدة لكن الواقع والمنطق يؤكدان أن المجتمعات لا تقوم على تلك المهن وحدها! ليه خايفين نجرب؟ لماذا سمحنا للسوق أن يحبسنا داخل إملاءاته ونمطياته. فى فترة شبابنا ارتدى مغنى مشهور «بلوفر» بألوان معينة. لم تمر أيام حتى كان جل شباب جيلنا تقريبا قد ارتدى نفس البلوفر، ولم يكن من الممكن أن تمر فى شارع ما دون أن ترى ألوانه المميزة. ربما كانت ألوانا جميلة ونقوشا أنيقة وبلوفر فى مجمله «شيك»، لكن لماذا لابد أن نرتديه جميعا؟ لماذا علينا أن نرضخ للسوق؟ لماذا يقبل بعضنا أن يكون إمّعة؟! لا أتحدث هنا عن مطلق المخالفة من باب خالف تعرف، لكن أتحدث عن الشجاعة الكافية للمحاولة والتجريب والتغيير، لا شك أن إملاءات السوق وخياراته قد تحمل أحيانا منطقا ووجاهة، لكنها يقينا ليست قرآنا يناسب الكل وكم من خير تحجبه عنا تلك المخاوف وتحول بيننا وبينه تلك الإملاءات النمطية والسلطة النافذة التى سلبتنا قدرتنا على التفكير والاختيار حين قررنا أن نستسلم لها وننهزم أمامها.. أمام سُلطة السوق.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة