منذ أكثر من ربع قرن وأنا مهتم بتحليل الخطاب، والخطاب ليس هو الكلام أو التصريحات أو حتى الكلمات، والخطب التى يلقيها الرئيس أو كبار المسؤولين، إنما هو مجمل كل هذه الأشياء، هو ممارسة اجتماعية، تجمع بين القول والفعل، وللأسف الشديد لا يفهم كثير من الإعلاميين والباحثين هذا المفهوم الواسع للخطاب، ولا يستوعبون القواعد والأسس التى تقوم عليها مدارس تحليل الخطاب. هذا الجهل الفادح ظهر فى تعليقات وتحليل معظم الكتابات التى ظهرت بعد خطاب الرئيس الأخير، حيث ركزت على أخطاء المونتاج، وعيوب التصوير أى على الجوانب الفنية، وهى أمور مهمة وتؤثر فى استقبال الجمهور للخطاب، لكنها يجب ألا تشغلنا عما جاء فى الخطاب ذاته، وعن تطبيق قواعد تحليل الخطاب بشكل علمى وأهمها: التواصل، والانقطاع والتحول، والمسكوت عنه. وهى قواعد سأطبقها باختصار تسمح به مساحة المقال.
أولا: التواصل: فالرئيس يواصل كلماته الدورية، التى وعد أن تكون شهرية، وهو تقليد جيد، وجديد لم يسبقه أى رئيس مصرى فى العمل به، وكان الرئيس قد تحدث للمصريين فى فبراير الماضى، ووعد بعدد من الأمور كنت أتمنى أن يتابعها بالتقييم كنوع من التأكيد على التواصل، حيث وعد مثلا فى خطاب فبراير بتخصيص مليار جنيه لتطوير الدويقة، وبمحاسبة أى مسؤول يثبت تقصيره بمقتل شيماء الصباغ، وهو ما أنجزته حكومة محلب، لكن الرئيس فى كلمته لم يبرز هذا الإنجاز، وامتدادا لفكرة التواصل أشير إلى أن الخطاب الأخير كان سابق الإعداد، فهو مسجل وخضع لعمليات مونتاج، بعضها غير دقيق، مما جعلها عرضة لنقد وصراخ بعض الإعلاميين، الذين فضلوا أن يتحدث الرئيس مباشرة للشعب من دون وسيط ومن دون إعداد أو تسجيلات مسبقة، وهو ما اختلف معهم تماما، ومن منظور مدارس تحليل الخطاب، فإن الرئيس يريد أن يحقق أعلى درجات الدقة، ويمنح خطابه طابعا رسميا، وهى أمور تعكس مدى احترامه للشعب، وربما خوفه منه، وهى سمات جديدة فى إنتاج الخطابات الرئاسية المصرية، أرجو أن تتواصل ويحافظ عليها الرئيس السيسى.
ثانيا: الانقطاع والتحول: أهم تحولات خطاب الرئيس الأخير أنه وضع ولأول مرة فى كلماته للشعب مشكلة الفساد قبل الإرهاب، كما أعلن وفى الدرجة الثالثة من الأهمية عن ضرورة إصلاح الجهاز الإدارى للدولة، وجاء هذا التحول المهم على حساب التركيز على مشكلة الإرهاب والتحديات الخارجية والداخلية التى تهدد أمننا القومى. فالفساد هو أحد أهم أسباب الإرهاب، والتحول الثانى المهم هو تراجع الاهتمام بالقضايا الخارجية، فالرئيس ركز على قضايا الداخل، أما التحول الثالث فهو تراجع الاهتمام بملف الإعلام، فلم يهتم به الرئيس كثيرا، واكتفى بمنحه دقائق محدودة، قدم خلالها رسائل وإشارات ذات معنى.
ثالثا: المسكوت عنه: لم يتطرق خطاب الرئيس للانتخابات البرلمانية والحياة الحزبية وخطوات التحول الديمقراطى أو ملف حقوق الإنسان، كما لم يتطرق للموقف المصرى من حرب اليمن، ولم يتحدث عن الإخوان.. فقد سكت عن كل هذه الموضوعات ما يشير إلى تركيزه على ملفات الإصلاح والتنمية ومحاربة الإرهاب، وهو توجه أختلف معه تماما، لأنه لا إصلاح أو تنمية بدون مشاركة شعبية وحياة سياسية نشطة وفعالة، أيضا لم يتطرق الرئيس إلى واقعة وزير العدل المستقال!! فلم يتطرق إليها رغم أنها تصب فى صالحه، حيث أبعد وزير العدل نتيجة ضغط شعبى واستجابة من الدولة، وهو ما يتوافق مع الدستور، لذلك كان على الرئيس أن يؤكد التزامه بالعدل والمساواة بين كل المصريين من دون تمييز.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة