كان ذلك فى شهر يوليو 1979، وصلت إلى لندن قادما من روما التى حضرت فيها مؤتمرا يفترض أنه سرى الانعقاد لتنظيم الطليعة العربية، ولست بصدد تفاصيل ما دار على مدى ثلاثة أيام، ولا من حضروا من عدة بلدان عربية، المهم أننى وصلت العاصمة البريطانية ومعى حقيبة قديمة كانت تخص أبى فى الأربعينيات، وانكسر منى أحد قفليها فربطتها بحبل، وأمام هيثرو اتصلت هاتفيا بخالد عبدالناصر، رحمة الله عليه، إذ كان هناك يعد لدرجة الدكتوراه فى الهندسة بالكلية الإمبراطورية للتكنولوجيا، إذا جازت ترجمة كلمة «امبريال» إلى إمبراطورى، ورحب الرجل بى غير أننى كنت حساسا جدا عندما أراد أن يمازحنى فى الهاتف: «الله.. أنت جيت لندن.. أنت بعت القضية ولا إيه؟!» ومن فورى وبطريقتى القديمة قلت: مش أنا اللى بأبيع.. ولم أستكمل لأنه بادرنى بالاعتذار، مؤكدا أنه يمزح، ثم طلب إلى أن أبقى فى مكانى أمام المطار لأنه سيأتى ليأخذنى، وفعلا جاء بسيارة مرسيدس سوداء صغيرة واتجهنا لشقته الصغيرة جدا التى كانت تضمه وزوجته داليا فهمى وابنته الصغيرة تحية الأستاذة بالجامعة الأمريكية الآن، ومعاونة للمنزل مصرية بنت بلد! وعرض علىّ أن أبقى لأقيم معه متخذا من الصالة والكنبة مضجعا ولكننى طلبت البحث عن فندق رخيص؟! وبعد فترة سألنى ماذا ستفعل فى الأيام المقبلة بعد أن خرجت من مصر ولابد لك أن تعمل لتعول أسرتك؟ وقلت إننى أنوى البحث عن عمل فى الإمارات، إذ أحمل توصية من السيد حاتم صادق زوج شقيقته الدكتورة هدى إلى الأستاذ أحمد خليفة السويدى، وزير خارجية الإمارات آنذاك، ليساعدنى فى العثور على عمل، وفوجئت بخالد، رحمة الله عليه، يطلب منى أن أكون جاهزا صباح اليوم التالى، لأننا سنذهب إلى صديق له يمكن أن يساعدنى فيما أسعى إليه، وفى اليوم التالى توجهنا إلى ضاحية عرفت أن اسمها «هامستد»، واقتربنا من بوابة فتحها خواجة بريطانى أشقر قوى البنية رافعا يديه بالتحية ودخلنا إلى الاستقبال ليستقبلنا صاحب المكان مرتديا جلبابا أبيض وأخذنا بالأحضان، وجلسنا ويبدو أنه وخالد كانا متفقين على مصيرى وعلى شىء آخر هو أن لا أعلم من فورى من هو مضيفنا وماذا يعمل.. إذ عرفت فقط أنه الأخ سلطان. وبعد فترة من الحديث أدركت فداحة ما أنا فيه لأن صاحب الدار هو صاحب سمو وحاكم لإمارة الشارقة وما إن بدأت أستخدم ما دأبنا عليه كمصريين من الطبقات الوسطى والدنيا من استخدام ألفاظ وألقاب التوقير الشديد لمن نحدثه كصاحب مكانة فنقول: «سيادتك.. وحضرتك يا أفندم.. وما على غرارها»، حتى بادرنى الرجل وسألنى ضاحكا «معك أستيكة؟!» وقلت لماذا فقال لتمسح بها هذه الألقاب لأننى أخوكم ولأن لمصر وأهلها فضلا على لن أستطيع أن أوفيه، ويكفى أننى كنت أستخدم ميكروسكوبات كلية الزراعة التى دفع ثمنها شعب مصر.. ثم قال: سيمر عليك غدا صباحا الدكتور جمعة بلال، الملحق الطبى فى سفارة الإمارات بلندن، لتذهب معه لتستخرج تأشيرة دخول، وبعدها تذهب إلى واحد اسمه الأستاذ محمود ريحان فى بنك الاعتماد والتجارة بالقرب من المكان الفلانى ليعطيك بطاقة سفر لندن باريس الشارقة.. وعندما تصل الشارقة اسأل فى المطار عن شخص اسمه سلطان بن محمد وستجد المساعدة التى تريدها. وفى سبتمبر سافرت من لندن لباريس للشارقة وما إن خرجت من باب الطائرة إلى السلم حتى صدمت، إذ كنت أرتدى نظارة ولم أستطع الرؤية لأن الضباب كان كثيفا وتراكم على عدسات النظارة ووصلت أمام شباك الجوازات لأسأل ببلاهة فلاح مصرى بسيط عن السيد سلطان الذى قال لى أن أسأل عنه، وقبل أن تزداد برطمة ضابط الجوازات، أطل اثنان أحدهما فارع الطول بشرته داكنة السمرة وآخر أقل طولا.. عرفت فيما بعد أنهما الأخ مبارك بالأسود والأخ خلف الحوسنى من طاقم حراسة صاحب السمو وأخذانى وحقيبتى التى كنت قد اشتريتها من لندن مكان حقيبة الأربعينيات مكسورة القفل ونزلت فى الفندق لأستدعى فى المساء لأن «الشيوخ» ينتظروننى فى المنزل وبدأت قصة وجودى بالإمارات التى وصلتها يوم 22 سبتمبر 1979، وربما تكون لنا عودة لأحكى تفاصيل عن الرجل الذى أحب ويحب مصر، ويقول عن نفسه إنه صناعة مصرية وله فى عقل ووجدان شعب مصر مكانة سامية قل أن يحتلها حاكم عربى آخر.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة