شعر صلاح عبدالصبور (1931 - 1981) الصافى لا يلح عليك إلا وأنت وحيد، صاحبه ليس فقط أحد رموز التجديد فى الشعر العربى، لكنه صوت الذين يبحثون بالكتابة عن أسباب للوحشة التى تحاصرهم، هو سليل الشعر العربى والإنسانى، الذى صادق الحلاج وبشر الحافى، هو الفيلسوف الحزين الذى كان ينتظر حلًا نهائيًا للمسائل المعلقة، المسرحى والمترجم والناقد، حلت ذكرى ميلاده فى الثالث من الشهر الجارى، وما زال شعره عفيًا معبرًا عن ضيق العالم وقسوته، تشعر أن صاحب «الناس فى بلادى» و«أحلام الفارس القديم» و«أقول لكم» يجلس فى مكان ما غير بعيد يتمم على الأحزان نفسها، ينظر بشفقة إلى العالم القديم، يتذكره كثيرون فى القصائد المباشرة الشهيرة، كما يفعلون مع صلاح جاهين، وأمل دنقل، وأحمد فؤاد نجم، والأبنودى، فى حين أن أجمل قصائده وقصائد هؤلاء فى مكان آخر، تذكرت لصاحب «تأملات فى الزمن الجريح» من «مرثية صديق كان يضحك كثيرًا».
كان صديقى
حين يجىء الليل
حتى لا يتعطَّن كالخبز المبتل
يتحول خمرا
تتلامس ضحكته الأسيانة فى ضحكته الفرحانة
طينا لمَّاعًا أسود
أو بلورا
ويخشخش فى صوت الضحكات المرسَل
صوت كتكسُّر قشر الجوز المثقل
كنا نتلاقى
أو بالأحرى نتوحد، كل مساء
فى قاع الحانة
كالأكواخ المتقاربة المنهارة
والريح من الشباك المترب للشباك المترب
تتسكّع بين فراغات الأشياء
يتنحَّى كلٌّ منا عن موضعه للجار الأقرب
لا عن أدب و حياء
بل خوفا أن تختل الدورة
إذ نتصادم أو نتلاقى
كلمات، أو أذرعة، أو آلاما، أو أهواء
حذرا أن نهتز و نتفتَّح
يتقارب كلٌّ منا فى داخله كالأجَمِ الفارغ
فإذا مال تنحنح
وفى نهاية المرثية يكتب صلاح عبدالصبور :
مات صديقى أمس
إذ جاء إلى الحانة، لم يُبصر منا أحدا
أقعى فى مقعدهِ مختوما بالبهجة
حتى انتصف الليل
لم يُبصر منا أحدا
سالت من ساقيهِ البهجة
وارتفعت حكمته حتى مسَّت قلبَه
فتسمَّم بالحكمة
غاب الندماء، فلم يقدر أن يتحول خمرا
وتفتَّت مثل رغيف الخبز.