كلما كفرت بطاقة مصر، وبقدرتها على البقاء والاستمرار، وتأكدت بشكل أو بآخر أن الأمل مفقود، تأتى إلىّ إشارة من هنا أو هناك توقف يأسى من هذا البلد، وتبعث فىّ الأمل من جديد، وتقول لى بصوت صارخ لا تيأسى، فمصر ولادة، والخير فيها، لكنها فقط تحتاج ممن يحكمها وكل مسؤول فيها لنظرة وتقييم صحيح وجيد للبشر، لأن الإنسان هو أقيم ما فى الوجود، لذا فحسن تقييمه وتقويمه هو الذى يجعل أى دولة وأى شعب له قيمة بين الآخرين، والأهم له قيمة فى المطلق.
أما لماذا فجأة، وبرغم كل الهم والغم المحيط بنا نحن أهل المحروسة من كل صوب وحدب يتملكنى الأمل، فتلك هى الحكاية التى بدأت باتصال تليفونى من شخص اسمه أحمد، عرفنى بنفسه، وقال لى إنه عضو فى نادى ليو الإسكندرية أبوللو، وأنهم بصدد إقامة حفل لمجموعة من الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة فى مكتبة الإسكندرية، ويدعونى للحفل.
وافقت دون تفكير، وحين جاء موعد الحفل 17 مايو، بالفعل سافرت للإسكندرية، والتقيت ذلك الشخص الذى كان يحدثنى دون سابق معرفة، فوجدته شابًا صغيرًا فى بداية العشرين من عمره، وعرفنى بنفسه، طالب فى الأكاديمية البحرية، ولم أفهم ما علاقة شاب صغير بهذا الأمر، لكن ما هى إلا لحظات ووجدت أمامى عددًا آخر من الشبان والفتيات لا يتعدى عمر أكبرهم الثمانية والعشرين عامًا يعرفوننى بأنفسهم كأعضاء فى هذا النادى الوحيد فى الإسكندرية الذى يضم 150 عضوًا وعضوة من الشباب، ويحكون لى حكايتهم وحكاية مشروع «أنا موهوب» الذى بدأ منذ عام 2010 ومستمر حتى الآن، فهؤلاء الشباب اللى زى الورد يعملون فى مجال الخدمة الأهلية، والتقوا بكثير من الأطفال الأيتام، وذوى الاحتياجات الخاصة والفقراء، فاكتشفوا أنهم يتمتعون بمواهب كثيرة فى العديد من المجالات، كالغناء والرقص والتمثيل والرسم، فقرروا أن يجمعوا كل هذه المواهب تحت سقف واحد، ويكتشفوها ويدربوها ويعرضوها للجمهور ليسعد الأطفال، ويسعد من يشاهدهم، ويُخصص دخل الحفل بالكامل للإنفاق على تكاليف الحفل الذى يقام فى مكتبة الإسكندرية، بدت الفكرة بالنسبة لى جذابة، لكن فى حدود أنها عمل خير من مجموعة شباب فقط.
وفى المساء كان الحفل الذى حضره محافظ الإسكندرية هانى المسيرى لأول مرة، وانطفأت أضواء المسرح ليبدأ العرض، بل قل المفاجأة بكل المقاييس لى، ولأغلب الحضور، فنحن أمام معجزة بكل المقاييس، حين تخرج علينا راقصة شابة اسمها «ندى» تطير على المسرح كالفراشة، خطواتها ثابتة، وتؤدى الحركة بخفة ورشاقة، مع تناغم كامل مع الموسيقى، وتكتشف أنها فتاة صماء لا تسمع، لكنها ترقص وكأنها فريدة فهمى فى زمنها، ثم يليها عرض تمثيلى لمجموعة من أطفال التوحد، يغنى أحدهم أغنية لإيمان البحر درويش، ثم يأتى الدور على «عمر»، الطالب الكفيف صاحب الصوت الذهبى، ثم يعرض أطفال من مدرسة للصم والبكم عرض «بانتوميم» يحكى عن طفل يبحث عن موهبته، وتليهم مجموعة من البنات والشباب الذين يعانون من «متلازمة داون»، يعرضون مسرحية تناقش مشاكل
الزواج، ثم يأتى «مؤمن» الذى يعانى من تأخر فى النمو العقلى، ويغنى خمس أغنيات بلا موسيقى، ولا يخطئ أو ينشز فى جملة غنائية واحدة، وكم من مطربين كبار مشاهير سمعتهم مباشرة أغلب غنائهم نشاز، ثم يختم العرض «حمزة»، الشاب الوسيم راقص الـ«بريك دانس» الذى يقدم عرضًا مبهرًا. مصر لا تأتى بميدالية، ولا بنصر أولمبى رياضى إلا من ذوى الاحتياجات الخاصة، وها هى تقدم عرضًا فنيًا عبقريًا لذوى الاحتياجات الخاصة بأقل القليل، وصحيح أن أغلب الشعب مظلوم، لكن هؤلاء أصحاب الاحتياجات الخاصة هم أكثر فئات الشعب المظلوم من الحكام ومن الشعب ذاته. تحية لشباب وشابات
«ليو الإسكندرية» الذين ذهبت لهم متصورة أننى أجاملهم فإذا بهم يمنحوننى سعادة وأملًا فى غد أكثر إشراقًا بهم وبكل من يشبههم، وأتمنى أن تتبنى الدكتورة إيناس عبدالدايم والأوبرا المصرية فكرة هذا الحفل لتقيمه على مسرحها، فمن حق أهل القاهرة أن يشاركوا أهل الإسكندرية تلك المتعة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة