رأيت دائما كثيرا من الأدباء غاضبين منذ بدأت أختلط بالحياة الثقافية فى أول شبابى فى نهاية الستينيات من القرن الماضى، ذلك أنى وعيت فرأيت وزارة للثقافة ولا وجود للثقافة خارجها، المسارح والسينما والنشر وكل ما له علاقة بالثقافة، كثير من الغاضبين اختاروا الهامش وصاروا كتابا كبارا مثل نجيب سرور وأمل دنقل وعفيفى مطر وعشرات غيرهم، وكثير اختار متن الثقافة، أى البروز عن طريق أنشطة الوزارة. هؤلاء رأى بعضهم أن هذا حقهم، وكافحوا كثيرا للوصول إليه، ومنهم من رأى أن هذه هى أسهل السبل للشهرة، وهذا النوع الأخير بالذات كان دائما من غير الموهوبين، لم يجد أى عنت فى نشر أعماله، ولا عنتًا فى الاحتفاء به والترويج لبضاعته الفاسدة، أو على الأقل الضغيفة، وساعد على ذلك إعلام مركزى أيضا، والقريب من وزارة الثقافة غالبا قريب من الإعلام. وشيئا فشيئا صارت بعض قيادات وزراة الثقافة أقل قدرة، اعتبرت أن موقعها الثقافى يعنى أنها صاحبة الثقافة، وأن ما تقيمه من مؤتمرات وندوات ولقاءات من جيبها الخاص وليس من أموال وزارة الثقافة التى هى أموال الشعب، كبرت أسماء هذه القيادات وكبر من يلتفون حولهم، واستفادت هذه القيادات من العمل، فحين يعزم المسؤول خمسين كاتبا عربيا إلى مؤتمر تقيمه الوزارة من مالها يقوم أربعون أو ثلاثون منهم على الأقل برد الجميل له ويصبح كاتبا فى أكثر الصحف والمجلات العربية وصاحب مشورة فى كل الجوائز العربية والمحلية، وهكذا يتسع نفوذه ويتصور أنه المثقف الأوحد، ويصبح ما يكتبه مثار أحاديث الصحف والإذاعات المرئية والمسموعة، ويختلط الأمر على صاحبه فيتصور أنه كذلك فعلا، ولا يدرك أن ذلك كله من منصبه وليس من أفكاره، وهكذا يصبح المحيطون به من غير الموهوبين بالذات أعضاء يضعهم فى كل اللجان ومستشارين سريين لكل الأجهزة الثقافية وينهار عليهم المال من كل ناحية فيسعدون به ويتصورون أنهم مثقفون كبار، يكون لهم رأى فى كل شىء وفى كل القنوات باعتبارهم كتابا كبارا وهم طبعا رجال النظام الكبار، لا يدرك أحد منهم أبدا أنه على غير ما يقال له، لا يسأل عن كتبه: هل تباع حقا؟ هل تقرأ حقا؟ وهكذا صار فى الثقافة طواغيت، روائيون وشعراء ونقاد طواغيت، وهم أقل الناس موهبة، وطبعا لأن آلة الإعلام تسندهم، فالقريب من المنفذ الثقافى هو عادة الأقرب إلى الإعلام، لا يعترف أحد منهم بأنه على غير ما يبدو، ولقد وضعت وزراة الثقافة بندا سريا من زمان هو تقريب بعض الصحفيين والإعلاميين إليها قبل الأدباء، اتقاء لما قد يحدث منهم من نقد، وهنا اختلط الحابل بالنابل، هذه المركزية جعلت كبير المنصب يتصور أنه المثقف الأوحد والأقل منه يصاب بنفس المرض المهنى، بينما المنصب الثقافى عمل من أجل الثقافة ومن أجل الجميع، الثقافة هى أقرب الأنشطة الإنسانية للضمير لكن مركزية الثقافة كثيرا ما تفسد الضمائر من ناحية وتصيب أصحاب المراكز بوهم المثقف الكبير بينما الأفضل أن يكون الموظف الكبير، وطبعا يساعد على ذلك أيضا كثير من الكتاب والمثقفين الضعفاء والمنتفعين الذين يلتفون حولهم ولايقولون لهم كلمة نقد حقيقية، أو على الأقل يبتعدون ساكتين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة