د. شوقى عبدالكريم علام

التواصل الحضارى مع الآخر

الأحد، 03 مايو 2015 12:02 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من أهم الحقائق التى لا يخالجها شك أن الإسلام قد استوعب كل الحضارات والثقافات السابقة، وجاء بأحسن ما فيها، وأوضح القرآن أن التنوع والتمايز يكون حافزًا للتسابق والمنافسة فى طريق الخير، قال تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ»، وهناك آيات ودلائل كثيرة تؤكد أن علاقة الإسلام بالآخر قوامها السماحة والعدالة واحتـرام حقوقه، كما أن القرآن الكريم أكد أن الاختلاف فى أى أمر، حتى لو كان فى العقيدة، لا ينبغى أن يكون مدعاة للظلم أو التغابن بين الناس، قال تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

ولقد أفادت الحضارة الإسلامية الحضارات الأخرى، واستفادت من ثمراتها دون أن ينال ذلك من تميزها، أو يؤثر عليها، أو يصطدم مع الشرع، فى مجال العقيدة أو السلوك، لأن الإسلام لم يمنع التعامل أو الانفتاح على الثقافات الأخرى، ما لم يؤدِّ ذلك إلى المساس بالمبادئ والقيم الإسلامية. ونجاح الحضارة الإسلامية فى التواصل مع غيرها يرجع إلى كونها حضارة إنسانية مرتبطة بعقيدة لا تفرق بين الناس بعضهم بعضًا فى الأصل أو اللون أو القطر، بل ميزان حكمها عليهم بالتقوى والعمل الصالح، كما أن الإسلام لم يأمر أتباعه بالانعزال عن الآخر أو إقامة الحواجز، بل أمرهم بالاستفادة من الحضارات الأخرى، فقد حثهم على طلب العلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ»، وعليه فقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بتعلم الفارسية والرومية، اللغتين اللتين كانتا مسيطرتين على العالم وقتها، تبعه تعلم اليونانية والقبطية والسريانية والعبرانية والهندية وغيرها من لغات البلدان التى فتحها المسلمون، وكانت سببًا كبيرًا فى نقل التقدم العلمى والصناعى والثقافى والإدارى، وغيرها من الأمور التى أفادت الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامى آنذاك.

ونتيجة ذلك فإن الإسلام لم يأمر أهله بالانعزال، أو الصدام مع الآخر، أو اتباع مبدأ التصنيفات قبل التعامل مع أصحاب الحضارات والثقافات الأخرى، بل حثهم على التفاعل والتعامل ما دام لا يخالف الشرع، أو يجر على المسلم الذل والصغار.

لكن ثمة أمور ينبغى ألا نغفلها، هى أن مؤرخى الحضارات من غير المسلمين حينما يتعرضون للحديث عن حضارة المسلمين يجانبون الصواب ويتعصبون ضدها. واصفين إياها بالهمجية، والتى فرضت نفسها على الناس بحد السيف، ومما يعزز لديهم الآن هذا الإحساس تلك الجماعات التى رأت أن الإصلاح لا يكون إلى بالقتل والحرق وما شابه، وهنا يأتى دور الخطاب الدينى الصحيح فى بيان أن الحضارة الإسلامية حضارة عريقة وعظيمة، وأن المسلمين ما فتحوا بلدًا إلا وعاملوا أهله كأفضل ما يكون، وليس ببعيد ما حدث فى مصر فى الفتح الإسلامى، وكيف عامل المسلمون أهل مصر معاملة حسنة نابعة من صحيح الدين بعد تلك المعاملة السيئة والبشعة من قبل الرومان.

والبعض الآخر يرى أن حضارتنا ما هى إلا ناقل للحضارات الأخرى كالفارسية واليونانية والهندية، وهذا كلام عارٍ عن الصحة، فإذا سلّمنا بأن الحضارة الإسلامية- فى تأكيدها على عدم انعزالها عن الآخر- قد أفادت من تلك الحضارات، فإنها فى الوقت نفسه أضافت إضافات وابتكارات فكرية عظيمة، وقعَّدت القواعد فى الاستقراء والسبر والاستنباط والاستخراج والتفسير والتعليل والقياس، وأعادتها منتجات جديدة إلى تلك الحضارات من خلال علمائها، كالفارابى وابن سينا وابن الهيثم وغيرهم، وهذا يتفق مع رأى أصحاب الرؤى العادلة من أبناء تلك الحضارات، والذين يرون أن المسلمين قدموا للعالم حضارة متكاملة الأسس والأركان. ونافلة القول هنا أن الإسلام نسق مفتوح يجب على خطابه الدينى اليوم أن يبين أن الحضارة الإسلامية هى حضارة منفتحة على غيرها، لا تريد الصدام مع أحد، ولا تنتهج العنف سبيلاً لها فى تحقيق غايتها، حتى لو بدا ذلك من قلة ممن ينتسبون إليها، فهى على مدى تاريخها تفيد وتستفيد، تعطى النموذج فى التسامح والعدل والمساواة، وهذا مبدأ أرساه النبى صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً منذ أكثر من خمسة عشر قرنًا من الزمان.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة