أسوأ ما قد يحدث فى الصحافة، أن يتم استغلالها من قبل أحدهم لتمرير رسائله التى يريدها من خلال حوار أو تصريحات مرسلة دون أن يرده أحد بسؤال من نوعية: «وماالدليل؟ هل يوجد تأكيد؟ هل لديك وثيقة إثبات لتصريحاتك أو لاتهاماتك لطرف غائب عن الحوار الفردى؟».
وأسوأ ما يمكن أن تبرر به الصحافة تمريرها هذه التصريحات المرسلة، كلمات من نوعية: «نشرنا التصريحات على عهدة راويها وعلى الطرف الآخر أن يرد بالإيجاب أو السلب».
حسنا يبدو لهذا التبرير رونق ما، بعد أن نتغاضى عن فكرة تحويل الصحف والإعلام إلى مواسير مياه جارية لا يقلق المسؤول عنها إذا اختلطت بمياه الصرف الصحى، وإذا وضعنا على الرف معلومة تقول بأن أهل الصحافة يعلمون قبل غيرهم أن مداواة آثار العيار المقذوف نحو شخص ما أو جهة ما ليست دائما ذات نتائج جيدة، وأن الهدف من اللعبة كلها هو أن يسمع الناس صوت هذا العيار الذى لا يصيب فى مقتل ولكنه يصنع «دوشة» تمنح مطلقه بعض المكاسب.
فى تصريحاته الأخيرة لم يكتف حسين سالم، أحد أشهر رجال أعمال مبارك الهاربين، بإطلاق عيار صانع للضجة، بل تمادى الرجل حينما لم يجد ردا من سائله لأن يطلق دانة مدفع لا تصنع فقط بعض «الدوشة» بل تحيط جهاز المخابرات المصرية بالعديد من علامات الاستفهام.
فجأة تحول رجل مبارك، الذى نعرفه بأنه سارق أموال المصريين، وأول الهاربين من العدالة إلى مصدر يراه محاوره محل ثقة، ويجوز فتح الباب له على البحرى لكى يقول ما يريد دون طلب استيضاح أو رد، ليبدو الأمر وكأن أحدهم فتح الباب لـ«فاسد» لكى يعظ الناس، ولأن الفرصة كانت سانحة إن افترضنا حسن النية، ومرتبة إن وضعنا سوء النية فى الاعتبار، انطلق حسين سالم ليرسم لنفسه صورة الحمل الوديع، ويقول للناس من فوق منبر صنع خصيصا لتطهيره، إنه ليس سارقا أو هاربا، وينقل كل الذنوب المعلقة فى رقبته إلى رقاب أجهزة أخرى، وقال سالم وصدقه محاوره دون أى نقاش، إن علاقته بمبارك كانت اجتماعية فقط، وقال سالم وصدقه محاوره، بل ساعده على إتقان كذبته التى قال فيها بأنه يعيش على مساعدات مالية من أبوظبى حينما وصف شقته التى يعيش بها فى إسبانيا بأنها ضيقة المساحة، بدلا من أن يسأله كيف يستقيم ادعاؤه بالعيش على المساعدات مع وعده بأن يتنازل لمصر عن نصف ثروته، وقال سالم وأعانه محاوره على إتقان كذبته بالحديث عن مرضه ومعاناته وتعبه من كثرة الظلم والاتهامات، هكذا وبمنتهى البساطة أراد الحوار الذى نشرته الزميلة «المصرى اليوم» مع حسين سالم من إسبانيا أن يجمع له تعاطف الناس فى الشارع، فجاء الحوار على غرار إعلانات مستشفى السرطان، أنا حسين سالم، مش هربان، وماليش علاقة بمبارك، وشريف، ووطنى، وعايش على التبرعات، لكن فى نفس الوقت أعدكم بالتنازل عن الملايين، وأعانى من المرض.. ياترى هتساعدنى وتستهبل وتصدقنى؟!
الجزء الأخطر فى حوار حسين سالم يكمن فى تصريحه الخاص بأنه تحرك فى كل مشروعاته بناء على توجيهات من المخابرات، قالها ولم يطرح لنا دليلا أو يوثق اتهامه بمعلومة، قالها وهو يظن أنها كفيلة ببراءته، دون أن يعلم أن هذه الاتهامات التى يسوقها لتأكيد وطنيته هى أكبر دليل على فساده، وتضاعف جريمته من مجرد فساد مالى، إلى فساد أخلاقى يرتقى لمرتبة الخيانة.
الرجل الذى يريد إقناعنا الآن بأنه كان يعمل مع المخابرات فى أعمال سرية من أجل الوطن، هاهو الآن يكشف أسرار جهاز مخابرات وطنه من أجل تحسين صورته التى لم تكن يوما ما حتى فى ظل حياة مبارك أفضل من وضعها الحالى.
تصريحات حسين سالم ليست بريئة على الإطلاق، وتمريرها بهذا الشكل يحتاج إلى تجنيب مسألة حسن النوايا خاصة حينما تتمعن فى تفاصيل الحوار لتكتشف أن حسين سالم قال نصا: أنا لم أهرب، خرجت من مصر يوم 29 يناير 2011 إلى طبيب فى سويسرا، ثم قامت الثورة وأنا مواطن إسبانى، فلم أعد.
ولم يرد عليه محاوره كذبته بأن الثورة قامت فى 25 واشتعلت فى 28 يناير وتم إعلان بداية السقوط فى لحظتها، وبدلا من أن يجلس حسين سالم لمتابعة وضع وطنه المأزوم، وهو الرجل الذى أراد أن يمرر لنا من خلال حواره أنه وطنى، اختار أقصر طريق للهرب، كما تفعل الفئران مع أول دفقة ماء تدخل السفينة الغارقة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة