كان الرئيس السادات، رحمه الله، يفتتح إحدى المزارع السمكية فى محافظة الإسماعيلية، وعندما لاحظ امتلاء البحيرة عن آخرها بالأسماك، وبأحجام تفوق عمر المزرعة، لم تنطلِ عليه الخدعة وبدا عليه الغضب وقال للمحافظ «رجعوا السمك من الحتت اللى لمتوه منها»، فاضحا تمثيلية سخيفة اعتادت عليها البيروقراطية المصرية العميقة، بقدراتها الفائقة على اكتشاف الزيارات الميدانية السرية والمفاجئة للرؤساء وكبار المسؤولين، والإعداد لها فى أحسن صورة، على طريقة ست البيت التى تستعير طقم الصينى والسرفيس وأحيانا انتريه جارتها لتحسين صورتها أمام عائلة شاب متقدم لخطبة ابنتها، كما فى أفلام الأبيض وأسود.
تذكرت هذه الواقعة وأنا أتابع الزيارات المكوكية المتلاحقة لرئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، فمن إيجابياتها أنها تفعل أدوات الرقابة والمتابعة، وتجعله على وعى كامل بكل المشاكل والأزمات على أرض الواقع، ولها مفعول السحر فى أهالى المحافظات الذين يشعرون أن الدولة مهتمة بهم.. ولكن من سلبياتها أنها لا تترك وقتا يجلس فيه رئيس الوزراء فى مكتبه لمتابعة تنفيذ الخطط والإسترتيجيات والسياسات العامة فى مختلف أنحاء القطر المصرى، أما السلبية الكبرى فهى خدعة الإنجازات الوهمية، وكم حدث أن افتتح مسؤول كبير مشروعات سبق افتتاحها منذ سنوات، واستعارت إحدى المستشفيات أجهزة غسيل كلوى من زميلة جارة ترحيبا بزيارة رئيس الوزراء، علاوة على الكنس والمسح والرصف والرش والبياض والزهور، وصورة المسؤول على الجدران وأعلام مصر وتسلم الايادى، وغيرها من طقوس الزيارات المفاجئة، وبعدها لمّ الزهور والسجادة الحمراء والكراسى المذهب، ورجعهم للحاج جعفر صاحب الفراشة.
المسألة ليست «جرى الوحوش» ولكن تفعيل الأفكار والرؤى والخطط المدروسة المصحوبة بجدول تنفيذ زمنى دقيق ومحترم، وأن يتحول مكتب رئيس الوزراء إلى غرفة عمليات تعمل 24 ساعة فى اليوم، وتتابع دبه النملة فى كل شبر من أرض مصر، وأن تكون زياراته غالية وعزيزة ومنجزة، بمعنى أن الزيارة يجب أن تصحبها أهداف فى نفس حجم وقوة منصب رئيس الوزراء.
والله العظيم لا أستهدف إحباط همة رئيس الوزراء الذى أكن له الاحترام والتقدير، و«لكنه صعبان عليا المجهود الرهيب الذى يبذله، ويمكن ترشيده بتحقيق التوازن الدقيق بين وجوده فى المكتب والشارع».