إن الإسلام حين ذمَّ الإفراط والغلو، ذمَّ بنفس الدرجة التفريط فى الدين وفى أوامر الله تعالى، وأشار إلى ذلك أحد العلماء بقوله: «فما أمر الله بأمر إلا للشيطان فيه نزغتان، إما تفريط وإضاعة، وإما إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافى عنه والغالى فيه، كالوادى بين جبلين، والهدى بين ضلالتين»، وقد أكثرنا القول فى الغلو والتطرف والتشدد، ونحن اليوم ننبه- بنفس الدرجة- على ذم الإسلام للتفريط فى الدين، والتطاول على الثوابت والطعن فيها، لأن التفريط فى الدين، وإضاعة الفروض والسنن أسباب تأخذ البعض إلى نوع آخر من التطرف المذموم فى الدين.
ولعل الدعوات التى صدرت مؤخرًا من البعض بمطالبة المرأة بنزع الحجاب، كونه غير ثابت فى الشريعة، والدعوة إلى ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، بل والأدهى المطالبة بتقنينه، كلها أمور تجعل الخطاب الدينى أمام أمرين أحلاهما مر، أو أمام فريقين كلاهما ينزع للتطرف، الأول يجعل أحكام الدين كلها قطعيات لا ينبغى الخلاف فيها، أو إبداء الرأى حولها، ومن ثم فهو يكفّر كل من يخالفه فى الرأى والاجتهاد.
والثانى يجعل الدين كله ظنيات، ويعمل على إزالة قاعدة المعلوم من الدين بالضرورة، بحيث يستحيل وجود أمر أو حكم ثابت فى الدين عبر الزمان والمكان، بل لا نبعد الشقة إذا ما قررنا أن هذا المنهج سيجعل لكل إنسان دينًا منفردًا قائمًا بذاته، خاضعًا لفهمه وفكره وهواه، يختلف بالكلية مع دين صديقه أو جاره أو حتى ابنه وزوجته، حيث سيتحول الدين إلى مجرد اختيار ووجهة نظر لا غير.
هذا الأمر يحتم على الخطاب الدينى ضرورة مناهضة الفكر المتطرف والمتعصب أيًا كانت وجهته، والذى أصبح شغله الشاغل ليس النيل فقط من ثوابت الأمة، بل هدم تلك الثوابت من خلال تبنى فكر أو منهج مرفوض تمامًا، ومخالف للشريعة الإسلامية، وذلك من خلال استدعاء بعض القضايا الخلافية التى قد أثيرت من قبل، والتى رد عليها العلماء بالحجج التى أسكتت تلك الألسن التى كانت قد أطلقت تلك الافتراءات حينها.
وفى مواجهة هذا الفكر لا بد على الدعاة من بيان الأمر للناس، وإعلامهم أن المعلوم من الدين بالضرورة هو ما لا يسع المسلم أن يجهله، مثل الأحكام التى بُنيت على نص كتاب بيّن، أو سنة مُجتمع عليها، مثل فرضية الحجاب وحرمة الزنا، ولقد قرر الإمام النووى أن هذه الأحكام ثابتة بالإجماع المعلوم عند العامة، فيقول: «فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض فى المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله فى إنكارها، وكذلك الأمر فى كل من أنكر شيئًا مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشرًا، كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا، والخمر، ونكاح ذوات المحارم»، أما ما لم يرد فيه نص دينى من الكتاب أو السنة، فدور العقل هنا الاجتهاد المنضبط بالقواعد والأصول فى إطار الروح العامة للتشريع، مع مراعاته للأزمنة والأمكنة، وما يجرى فى دنيا الناس، وفى واقعهم من متغيرات.
ولأجل التصدى لهذه الفئة أيضًا، على الخطاب الدينى أن ينشر تعليمًا وفكرًا معاصرًا، وأن يرد على كل تلك الافتراءات، مستلهمًا التعاليم الصحيحة من صحيح الدين والسنة النبوية الشريفة، مؤكدًا على الثوابت، ويتأسى بخطاب الله تعالى لعباده الأسوة الحسنة: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ»، ويقوم علماؤه ببيان الفهم الصحيح للدين، والبعد عن الفهم السقيم، وأن يخاطب العقل والقلب والوجدان، وأن يشتمل هذا الخطاب على الوصايا العشر فى قول الله تعالى: «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النفس التى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»، لتكون له آثاره الطيبة، وله ثماره الحسنة التى تجعل أبناء الأمة يصلحون ولا يفسدون، ويبنون ولا يهدمون، ويجمعون ولا يفرقون، ويتعاونون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة