لم أتنبه إلى أن الرجل العجوز يسألنى إلا عندما أمسكت الجدة «جوديت» بذراعى فى رقة لتنبهنى «خوزيه» يسألك: «هل تتحدث اللغة الإنجليزية جيدا؟»، رددت: «فى الحقيقة أنا أفهم الإنجليزية جيدًا جدًا، لكننى لا أجيد التحدث بها يا سيدى». ضحك «خوزيه» ضحكات خفيفة واهنة، وقال: «ذا هو دائمًا حال كل البحارة، يفهمون كل اللغات جيدًا، لكنهم لا يستطيعون أن يتحدثوا بها.. اجلس يا ولدى». هذا هو جد «ألبيرتو» لأمه إذن، لم أدر ما الذى جعلنى أتصور أنه ميت، كان وجهه صارمًا، وملامحه محايدة لا تعبر عن أى مشاعر، لكنها على أية حال كانت ملامح مريحة.. جلست على المقعد القريب من فراش الجد «خوزيه»، فيما جلست «جوديت» على المقعد المواجه وهى تركز نظراتها الودودة فى عينى قائلة: «هذا هو خوزيه مارثيلو، البحار القديم»، وأضافت ضاحكة فى دلال ورقة: «وهو زوجى منذ نصف قرن مضاف إليه ثلاثة عشر عامًا كاملة، إنه مصاب بالشلل فى ساقيه منذ خمس سنوات، ينام بالنهار، ينام فى التاسعة صباحًا ويستيقظ فى العاشرة مساء، يأكل مرة واحدة فى اليوم، كما أنه لم يعد يشرب النبيذ، خوزيه مارثيلو هذا كان يشرب يوميًا ما يزيد على خمس زجاجات من النبيذ الأحمر يوميًا، لكن ذلك كان بالطبع قبل أن يصيبه الشلل فى ساقيه، لم يكن يشرب الويسكى أو البيرة، لم يكن يشرب إلا النبيذ الأحمر»، ضحك خوزيه مارثيلو، وقال: «أوه جوديت، فى الليلة الأولى التى عرضت عليك فيها الزواج كنت قد شربت ثلاث زجاجات من نبيذ ترولينجر، ونصف زجاجة من الإيسكوتش». ابتسمت «جوديت» وتحدثت كما لو كانت توجه حديثها لى شخصيًا: «وكيف أنسى هذه الليلة خوزيه؟ كيف يمكن ليهودية مخلصة أن تنسى لحظة واحدة من عمرها قضتها مع حبيب قلبها الذى أنقذها من الهلاك المحتم، وعاش طوال عمره هو جدارها الوحيد الذى تستند إليه؟»، تنهدت «جوديت» تنهيدة منتشية ثم تابعت: «يا له من زمن مر على كلينا، ثلاثة وأربعون عامًا مرت علينا وما زلت أنت سندى الوحيد».
فكرت للحظات بأن «جوديت» كانت تريد لفت انتباهى لطبيعة العلاقة بينها وبين خوزيه مارثيلو الذى بدت ملامحه متحفزة بشكل غامض قليلًا، وانتبهت إلى أن «جوديت» قد وضعت كفها فى حنان فوق ظهر كفى ونظرت فى عينى وهى تقول: «خوزيه مارثيليو البحار القديم يحب أن يحكى حكايتنا لكل من يستطيع أن يستمع إليه من البحارة الجدد، حفيده ألبيرتو يأتى له بزملائه البحارة، خوزيه يتمنى من كل البحارة أن يحملوا عنه هذه الحكاية معهم إلى كل الموانى ليحكوها لكل من يقابلونهم، هذا هو العمل الذى ألزم به خوزيه نفسه يا ولدى، وهذا هو السبب الذى من أجله أتى بك ألبيرتو إلى هنا».
حكى خوزيه مارثيلو حكايته بكل ما فيها من تفصيلات عنه وعن «جوديت»، وكيف أنقذها من يد النازيين فى «هامبورج» قبل القتل بلحظات، وكيف هرب بها وبأمها على ظهر السفينة إلى لشبونة الرحيمة، وكيف وصل بهما إلى «كانيكال» حيث صيد الحيتان، وحكى كثيرًا عن حياته فى ميناء «هامبورج» فى ألمانيا، وحكى عن اليهود وفظائع النازيين ضد اليهود فى ألمانيا، حكى كثيرًا، لكنه لم يحك لى عن سبب اختفاء «ألبيرتو» فى هذه الليلة، لأنه لم يكن يعرف أن «ألبيرتو» كان قد ترك بيت العائلة قبل أن ينهى هو لى حكايته.. بعد أن عدت للغرفة التى كنت أنام فيها لم يكن «ألبيرتو» هناك، فلم أنم بقية الليل، وفى الصباح عرفت من «يائيل» أم «ألبيرتو» أنه ترك البيت و«كانيكال» إلى غير رجعة، وبعد أن عدت إلى السفينة تأكدت من أن «ألبيرتو» لن يعود، ومن يومها لم أره ولم أسمع عنه أى خبر، لكنى متأكد من أن وجهه لن يختفى من ذاكرتى مطلقًا.