فى سابقة هى الأولى فى تاريخ مصر الحديث يعتذر رئيس الجمهورية صراحة وعلناً ودون مواربة عن تصرف غير لائق وقسوة غير مبررة قام بها ضابط صغير من ضباط الشرطة تجاه مواطن مصرى هو أحد المحامين، فقد اعتادت الدولة المصرية وزعماؤها ووزراؤها وخاصة السياديين عدم الاعتذار عن أى خطأ يصدر عن أحد رجالاتهم حتى لو اقتنعوا بهذا الخطأ، ويكتفون بمحاسبته فى طى الكتمان وعلى المستوى الداخلى لوزارتهم، بحجة أن الاعتذار أو تقرير الخطأ قد يجرّئ الكثيرين على هذا المرفق السيادى، وهذا الاعتذار الذى ذكره الرئيس السيسى علانية أمام العالم كله نيابة عن الضابط وأمثاله يعد شجاعة أدبية منقطعة النظير ويصب فى خدمة النظام.. ويرفع أسهمه وهو يعد إعمالا لفقه عظيم تحتاجه مصر كلها وهو «فقه المراجعة» أو ما يسمى عند الغرب «آلية النقد الذاتى».
وقد قام الرئيس مبارك فى أول عهده بالاعتذار بطريقة غير مباشرة عن تصرف مخبر بمدينة أسيوط قتل شابا كان ينتمى للجماعة الإسلامية اسمه شعبان راشد.. وكان الشاب يعلق إعلاناً لندوة دينية، فقام المخبر بقتلة بمسدسه الميرى دون مبرر فقام الرئيس مبارك باستقبال والديه فى القصر الجمهورى، وأصر على أن تتكفل الرئاسة بتكاليف حجهما معا كنوع من الاعتذار الرسمى عن فعل هذا المخبر الذى قدم للمحاكمة التى قضت بسجنه 5 سنوات.. وفى هذا إشارة إلى أن الرئاسة غير راضية عن السياسة التى كان اللواء زكى بدر قد بدأ فى انتهاجها وأثمرت فى بدايتها هذا القتل ثم تطورت بعد ذلك للأسوأ حتى صرح اللواء زكى بدر نفسه «إنه سيضرب فى سويداء القلب».. واستمر فى تصريحاته المستفزة حتى سب وشتم بعض الوزراء وكبار المسؤولين ووقع فى المشير أبو غزالة مما أدى لإقالته فى النهاية.
إن مشكلة هذا الضابط الذى اعتذر عن فعله الرئيس السيسى تطرح قضية كبرى تعانى منها الداخلية نفسها أكثر من غيرها وهى مشكلة الضباط الصغار الذين يرون أنفسهم أعلى من الناس ومن القوانين وهم شريحة صغيرة جدا، ولكنهم يتصرفون بعجلة وتستفزهم أقل المواقف، وإذا طلب منه التحقيق مع متهم فإنه يتعجل الوصول للمعلومات فيوسعه ضربا وركلا وتعذيبا قد يودى بحياته. إن الضابط الصغير يصبح أسيرا ًلاعتبارات كثيرة متناقضة فهو يحتاج لأن يظهر هيبة الدولة وقوتها ويخلط بين هذا المعنى وهيبته هو وجبروته الشخصى ويخلط عادة فى معاملة المواطنين فلا يفرق بين الحسن والسيئ والراقى والوضيع.. والسارق والمجرم.. والمواطن الصالح والطالح. هذا التعامل اليومى يضغط على أعصابه كثيرا ويخاف أن يكون حليما فيستهزئ به المجرمون ويخاف أن يكون جبارا فيظلم الآخرين، وهو لا يستطيع ضبط نفسه على دائرة القانون فى بلد يخرق الجميع فيه القانون ولا يستطيع تطبيقه على الجميع فى الوقت نفسه فتراه حليماً مع أقوام ينطبق عليهم قانون العقوبات ويخرجون من عقوبات بالأمر المباشر كـ«الشعرة من العجين» بتليفون يأتيه من هنا أو هناك ويكون أحيانا شديدا وعاصفا مع مواطن غلبان لا ظهر له يحميه أو يدافع عنه.. فتضطرب عنده المقاييس ويجد أن ما درسه فى الكلية شىء والواقع المعاش شىء آخر مختلف تماما، ولهذا يقع الضابط الصغير تحت صراعات نفسية ووظيفية ومجتمعية خطيرة.. فساعات عمله مفتوحة.. ويمكن أن يعمل عدة أيام متواصلة فتضطرب أعصابه.
والمشكلة أن الضابط يقع تحت صراع شديد، فهو يريد أن يكون صاخبا شديدا وقاسيا وحازما فى عمله.. ثم بعدها بساعات يريد أن يظهر لطيفا رقيقا وديعا أليفا لا ينطق لسانه إلا بالخير والبر مع خطيبته أو زوجته وعائلته وأصهاره وأقاربه وأهله وأحبته فتتمزق نفسه وخاصة وهو يعيش فى مجتمع لا يحب القوانين ويحب الهروب منها أو تجاوزها، فالجميع يحب الضابط إذا أفاده بتجاوز القانون ويكرهه إذا طبق عليه القانون.
إن أزمة الضابط الصغير أشبه بأزمة شباب الحركة الإسلامية أو الشباب الثورى، فكلهم تجمعهم نفس الصفات لكن الفرق بينهم أن الضابط الصغير يملك السلطة والقوة والقانون أيضاً،فالقانون فى بلاد العرب مطاط جداً ويتسع لكل شىء.. ولذلك يحتاج إلى ضمير يقظ يخشى الله ويخاف الظلم ويدرك أن الظلم ظلمات يوم القيامة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة