بيان نداء الكنانة فيه مجازفات لا علاقة لها بالمسؤولية العلمائية التى تقوم على الضبط والإتقان والتعمق والتحقيق، ففى قضايا الأحكام الشرعية يحتاج العلماء إلى التدقيق وتحقيق المناط وسبر الأغوار لمعرفة العلل المؤثرة فى الأحكام، فالعلم ليس مجرد الإطلاق فى الأحكام ولكن تقييدها، وليس التسرع بالدفع بالأدلة وإنما التحقق فى جمع أطرافها ومعرفة مقاصدها، ولأن العلماء موقعون عن الله سبحانه وتعالى فإن مسؤوليتهم ثقيلة، خاصة حين تكون الأحكام موجهة لجموع من المكلفين ترهقهم بواجبات وتفرض عليهم تحركات دون نظر لقدرتهم أو لطاقة مجتمعهم، ففى كل الأحكام الشرعية تشترط بالاستطاعة والقدرة، لم يشر البيان إلى شىء من ذلك. فى البيان «الحكام والقضاة والضباط والجنود والمفتون والإعلاميون والسياسيون وكل من يثبت يقينا اشتراكهم ولو بالتحريض فى انتهاك الأعراض وسفك الدماء البريئة
وإزهاق الأرواح بغير حق، حكمهم فى الشرع أنهم قتلة، تسرى عليهم أحكام القاتل ويجب القصاص منهم بضوابطه الشرعية»، لم يدخل فئات من الأمة بالجملة فى أحكام بالتكفير أو وجوب القتل فى حقهم بالجملة إلا الخوارج ومن سار سيرتهم، لا نعرف أحدا من علماء الأمة الأثبات الكبار يقول إن فئات بكاملها من الأمة ومن الجماعة لها حكم كذا ويعد ذلك تعيينا فى تقديرى، ولكنه بدلا من قولنا حكم المعين كما كان السلف والعلماء المجتهدون يفعلون فإننا نتحدث عن حكم الطوائف، وهنا سنجد البيان يتبنى بكل وضوح فكرة «الطائفة الممتنعة» التى وضع قواعدها بن تيمية وكان يقصد بها التتار حين دخلوا الإسلام وكانوا يمتنعون عن تطبيق بعض أحكام الشريعة مجتمعين على ذلك، وفكرة الطائفة الممتنعة هذه فى الحقيقة هى جوهر فكر تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية وتنظيم القاعدة وتنظيم داعش.
أى أن البيان يتحدث بشكل جزافى عن أحكام لطوائف ومهن بالكامل من الأمة، كما أن الحديث عن المنظومة وبالتأكيد المنظومة تعنى الطائفة الحاكمة وتعنى بالتعبير الواسع الدولة المصرية، وأن كل من يساعدها على الاستمرار بأى صورة من الصور فهو آثم شرعا لأن ذلك من المحرمات، أى أن البيان يعود مرة أخرى إلى ما كانت تنادى به بعض الجماعات المتشددة فى السبعينيات، وهو حرمة العمل فى الدولة، وكان أشهر من التقيتهم يقول بذلك حين كنت فى مقتبل شبابى بالجامعة هو الشيخ عبدالله السماوى، لكنه عاد عن ذلك الرأى بعد وانتقده، وهذه الحرمة تلزم كل من يساعد المنظومة بأى صورة من الصور، وهو ما يعنى أن قطاعات واسعة جدا من موظفى الدولة يدخلون فى معنى الإثم والحرمة.
وفى الحقيقة هذه الروح الاقتحامية الجريئة لم نعرفها أيضا لدى علماء كبار مسؤولين يعرفون معنى تحقيق مناط الأحكام الشرعية والنظر فيها وتأسيسها والإفتاء بشأنها، بل عرفنا تلك الروح عند الشباب قليلى الخبرة المندفعين الذين يريدون لفت الانتباه وشد الأنظار إليهم، وهى سمة خوارجية أيضا وجدنا ذلك بوضوح عند شكرى مصطفى الذى اعتبر أن كل المسلمين على الأرض قد خرجوا من الإسلام لأنهم قد نقضوا شهادة التوحيد بعدم مبايعته والدخول فى جماعته، نحن أمام بيان اقتحامى يعود بنا إلى أيام أن كانت الظاهرة الإسلامية فى بواكيرها ولم تنضج حين كان بعض شبابها الرث يسارع بالتكفير أو الحكم على الناس أو تكليفهم ما لا يطيقون، مستخدما نصوصا عامة عارية من الفقه ومواريث التدقيق العلمى
المسؤول، هذا بيان يدعو بلا حكم يقينى إلى اعتبار قطاعات من الأمة بأنهم قتلة، وأن منظومة الدولة يجب مقاطعتها وعدم العمل بها، وأن هؤلاء القتلة تجب مواجهتهم بالقصاص والقتل، وأن من يعتدى عليك ممثلا للدولة فلتواجهه فذلك حق، وتلك مراهقة ودعوة جماعية للعنف وعودة أخرى إلى فكر التشدد والتطرف والمراهقة الذى كنا نظن أن الحركة الإسلامية غادرته بلا عودة، بيد أن منطق السلفية الجهادية يغرق الجميع فى تياراته التى لا تعرف الرشد أو العقلانية أو المسؤولية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة