الذين تربوا فى الريف، وانتظروا قدوم رمضان بفرح، وفرشوا أمامه أعمارهم وأشجارهم، محاصرون الآن فى المدن الكبيرة التى بلا قلب.. كانت الأصوات العظيمة تشير إلى أجمل ما فى المصريين وهى تتلو القرآن وتبتهل، يهل الشهر الكريم هذا العام والناس تعبانة والحرية التى ثاروا لنيلها مهددة، ولكن «لسه جوه القلب أمل»، أستدعى شيئًا كتبته فى الماضى فى ظروف مشابهة لم تستطع قرانا عقد اتفاق واحد مع الفرح، ومع هذا كنا «فرحانين»، نتسلق أشجار «الزنزلخت» لنقطف عناقيدها الغامضة، نفرطها ونعبئ «حجورنا» بها، وننتظر مدفع الإفطار لنبدأ هجومنا المنظم على العائدين من الحقول، كانوا يفرحون بالهجوم عليهم، وكنا نطالبهم بالحفاظ على الابتسامات التى كبرنا جنبها، نصنع فوانيسنا بأنفسنا، ونتعثر فى طريقنا إلى الصلاة.
كبرنا أكثر مما ينبغى، ولم تعد قرانا الوسيعة قرى، وانكسرت الابتسامات على البلاط ، ومات أهلنا فجأة، وصرنا نستقبل ونودع الشهر الكريم فى مدينة محاصرة بالأحزان والأكاذيب. كان الظلام فى طفولتنا ظلامًا حقيقيًا، يخبئ فى جرابه الأساطير والأحلام والرهبة، ويأخذنا إلى النوم ويربت على أرواحنا، وكنا- إذا أردنا أن نثبت لأنفسنا أننا كبرنا- نحشد النور الذى بداخلنا لنسطو على جلاله، ونخربش جدرانه. كان صديقًا صغيرًا نخاف من اللعب معه، وعدوًا ضخمًا نفرح عندما تهينه الموالد والأفراح، كانت المصابيح البدائية الصغيرة صغيرة أمامه.
كبرنا، وابيضّ شعرنا، وأصبحنا فى وطن يصدر الكهرباء إلى الجيران ويقطعها عن أهل البيت، وأخذ الظلام أشكالًا جديدة مبهرة، تراه الآن فى «عز الظهر»، وأنشئت له مولدات تنفق عليها الحكومة الملايين والأعمار، من أجل محاربة الظلاميين، والظلاميون كما هو معروف ألوان، كان ظلام الطفولة مجهولًا مليئًا بالصور والخيالات «جاموس أسود كتير وأنا عليّا أحلبه» كما كتب فؤاد قاعود، كان له قوام، أصبح الظلام الجديد مكشوفًا، يشع فى النفوس، و«يلوى ذراع المضيئين»، ويجند الخفافيش والكلاب الضالة، وعلينا الآن- لكى تكبر أشجارنا القديمة- أن «نتشعبط» فى طاقة النور التى بداخلنا، ونضع الظلام القديم فى مكانه.. كل عام وأنتم بخير.