فى مثل هذه الأيام من عام 2010 غاب أسامة أنور عكاشة عن مصر والدنيا، ولكنه أبداً لم يغب عن الشاشة فمازال اسمه يزين ويتصدر كل مسلسل يعتبره الناس صغيرهم وكبيرهم جزءا من تاريخهم بل وحاضرهم وربما مستقبلهم لو أمعنوا الفهم، مازالت ليالى الحلمية درة صناعة التلفزيون، ومازلنا نرى الراية البيضا وكأن أسامة يعيش بيننا الآن ويرى ويكتب عما يحدث فى الإسكندرية، ومازالت أبله حكمت حلم نتمنى تحقيقه وخريطة تركها لنا لو سرنا عليها لخرجنا من مستنقع الجهل والتخلف، عشرات من الأعمال كلما شاهدنا غيرها مما يكتبها كتاب آخرين ترحمنا عليه وتذكرناه وقلنا بالبلدى أسامة أنور عكاشة قطعت بنا.
أما أنا فأقول ما كانت مصر أحوج فى تلك اللحظات وقبلها وبعدها لعقل وقلب ذلك الإنسان الذى مهما عرفه الجمهور كنجم يسبق اسمه كل الأسماء على تيتر أعماله الفنية، فإنهم لا يعرفون أسامة أنور عكاشة كما عرفته.
ولكن دعونا نبدأ بما هو معروف عن هذا الفنان الذى استطاع لأول مرة فى العالم العربى أن يجعل اسم الكاتب هو النجم الأول لأى عمل فنى فكأن اسم أسامة أنور عكاشة بات ختماً لجودة العمل الذى لا يختلف حوله جمهور أو نقاد.
أسامة أنور عكاشة الذى تصادف أن يكون يوم مولده 28 يوليو هو ذاته يوم مولدى حتى لو باعدت السنين بين ميلادنا، عالمنا ترك لنا ميراثاً من الأعمال الفنية التى كلما مر عليها الزمن وأعدنا مشاهدتنا لها نرى فيها جمال أكثر مما رأيناه فى مشاهداتنا الأولى، كان أسامة يغزل بقلمه الشخصية المصرية على مر العصور بأغنيائها بفقرائها بطبقتها المتوسطة التى كان يرى فيها الأمل والرجاء، تحدث بقلمه عن الحكام والمحكومين، وتأثر بعلم الاجتماع الذى درسه وعمل به سنوات. كانت الهوية شغله الشاغل فى كل أعماله فكان مسلسل المصراوية ختامها ولكنها كانت حاضرة فى أرابيسك وأبو العلا البشرى وزيزينيا وليالى الحلمية، كان أسامة ناصرى الهوى ولكنه فى ذات الوقت استطاع أن يسلخ نفسه عن الهوى ليرى ما على هذه الحقبة وما لها. وما على المشاهد إلا أن يعود لمسلسل ليالى الحلمية بأجزائه الخمسة ليرى تشريحاً لزمن ناصر بأحلامه ثم بواقعه الذى عرفه المصريون، ولم يكن ناصر وحده وزمنه هو الزمن الوحيد الذى وقع فى مرمى نيران عكاشة، لكن زمن السادات والرأسمالية التى بدأت تنهش فى جسد الوطن كانت أيضاً عُرضة لنيران عكاشة وانتقاده، حتى وصل بنا الزمن لمبارك الذى قال فى زمنه كثيراً والراية البيضا شاهدة، وفيلم كتيبة الإعدام ومسرحية الناس اللى فى التالت وغيرها وغيرها من الأعمال كلهم شهود على شهادته على عصر مبارك.
كل ما كتبت من سطور سابقة ربما يعرفها القاصى والدانى بل قد يعرفون أكثر لأنهم مشاهدون وشاهدون على أعمال أسامة أنور عكاشة، أما أسامة أو الأستاذ كما عرفته أنا فقد كان طفلاً كبيراً، لا يهدأ إلا وهو فى شرفة منزله المطل على بحر الإسكندرية فهناك كان لنا جلسات، ففى الإسكندرية ماريا كان الأستاذ مختلفا عنه فى القاهرة التى تطل شرفته فيها على الأهرامات، فكأن اختلاف المكان يجعل له شخصيتين وربما أكثر، فى القاهرة كان الأستاذ يبدو مثل ما يطل عليه ملك من ملوك الفراعنة مهموم بالرعية أما فى الإسكندرية فقد كان يخلع التاج ويرتدى رداء البحر الهادر أحياناً والهادئ أحيانا.
كان الأستاذ يغضب لغياب الأصدقاء الذين اعتبرنى منهم ولكنه كان غضب طفل لو ربت على كتفه تجد الابتسامة والحب، كان كتف الأستاذ مسند لى حين تتوالى على وجهى الصفعات فى زمن ومهنة صعبة، وكان قدر اعتزازه بنفسه وقيمته لا يمانع من انتقاد ولكن حق النقد فى حياة أسامة أنور عكاشة كان فقط من حق الأحباء أما دون ذلك فقد كان يتحول فى رده على أى انتقاد إلى مهاجم شرس يسحق منتقديه.
بعد أن انتهى الجزء الأول من المصراوية واختفى العمدة من الأحداث قلت له أنى عاشقة للعمدة وهو أصل الأحداث فكيف بك تخفيه وأننى سأفتقده وسألته هل سيعود فى الجزء التالى فقال لى إنه لا يعرف فالشخصيات فى أعماله هى التى تذهب أو تموت أو تعود وليس هو الذى يفعل ذلك. وفى حديث بيننا قال لى إن المصراوية ستكون آخر أعماله وكأنه كان يشعر بدنو الأجل ولكنى لجهلى كنت أراه بعيداً.
رحل الأستاذ ولم يشهد ثورة الشعب التى طالما حكى عنها، رحل من علمنى كثيرا عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، رحل وما أحوج مصر فى حيرتها لأسامة أنور عكاشة وما أحوجنى أنا إليه فى زمن الحيرة الكبرى، وما أحوجنا كمشاهدين ورمضان يقترب إلى مسلسل يقترب حتى من بعض من موهبة هذا الكاتب وإتقانه لعمله، أسامة أنور عكاشة وحشتنا.