لم يكن فى حالة يحسد عليها أبدا.. خائفًا يترقب، مطاردًا مهدور الدم، لا يأمن على نفسه. هكذا كان حال نبى الله موسى، عليه السلام، حين اضطر للخروج بعد أن ائتمر عليه الملأ ليقتلوه، طريق طويل سيقطعه من الأرض التى ولد فيها ونشأ وترعرع إلى أرض جديدة لا يعرفها ولا يعرف فيها أحدا.. صحراء قاحلة عليه أن يعبرها وحده.. ترى هل سيلحقون به؟ هل ستمضى خطتهم لقتله والخلاص منه؟ وكيف سيعيش هناك فى تلك الأرض الغريبة؟ وأين المأوى ومصدر الرزق وهو الذى عاش حياته لا ينشغل بكل ذلك وقد كان فى مكانة أمير فى البلاط الملكى؟! ربما كانت تلك الأسئلة والخواطر قد دارت بخلد نبى الله موسى، بينما هو على مشارف أرض مدين، لكن ما هذا التجمع البشرى الذى يبدو من بعيد؟ أخيرًا سيشرب إذاً بعد تلك الرحلة الطويلة ها هو ماء مدين يتزاحم عليه الناس، لم تزل به قوة وعنفوان رغم الرحلة الشاقة التى دامت أيامًا وليالى، سيستطيع أن يرتوى ويملأ سقاءه لكن مهلًا ما لهاتين الفتاتين تذودان؟ ضعيفتان هما لا تستطيعان مزاحمة الرعاء الذين لم يرحموا ضعفهما، ما الذى يدفع بامرأتين لهذه المخاطرة وتلك المهمة القاسية، «ما خطبكما؟».. سألهما موسى. قالتا: لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير.
لم تمض دقائق إلا وكان قد عاد بسقاء الفتاتين ممتلئًا عن آخره، انصرفت المرأة وأختها فى حياء ممتن، الآن قد اجتمعت كل عوامل الإرهاق جنبًا إلى جنبٍ مع هموم الإغلاقات التى تتكالب عليه، إغلاقات لم تتسرب إلى قلبه المترع بأمل فى الله، ها هو يتولى إلى الظل فى تسليم وافتقار وعلى لسانه مناجاة لا يملك غيرها فى تلك الظروف القاسية «رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير»، إلى غنى مولاه هو مفتقر، وإلى قوته هو ضعيف، وإلى فضل جوده وسعة رحمته هو راغب مضطر، فهل تراه يخيب ظنه؟! حاشاه حاشاه أن يرد سائلًا مفتقرًا «هنا جاء الفرج وقدم الفتح من عند خير الفاتحين، فتح لكل المغاليق السابقة، فتح فى الأمن وفتح فى الرزق وفتح فى المأوى والسكن والمودة والرحمة، فتح تحدوه خطوات حيية جاءت تزف إليه البشرى وتسوق الفرج». «إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا»، فتح لمغلاق الرزق الآنى.. ذلك الذى تبشر به تلك الفتاة الحيية «لا تخف نجوت من القوم الظالمين».. فتح لمغلاق الأمن يتبدى من كلمات الرجل الصالح والد الفتاتين وقد سمع منه القصص وأدرك ما ألم به من الظلم فأمنه وطمأنه «إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين» لن تعود وحيدًا يا موسى فقد جاء فتح المودة والرحمة والسكنى لزوجة حيية صالحة أكرمك الله بها وفتح لك على أن تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك عقد عمل هو إذًا، وظيفة مستقرة وعمل ثابت لسنوات تحددها أنت يا موسى، أى فتح هذا وأى فضل؟!
منذ ساعات كان خائفًا يترقب يأوى إلى الظل مفتقرًا، الآن قد أجر وزُوِّج ووظف وأمن ونجا، وفتح له لأنه الفتاح، الفتاح الذى يفتح مهما بلغت المغاليق ويفرج مهما ضاقت واستحكمت حلقاتها، يفتح حتى لو ظن كل الخلق أنه لا يفتح أبدًا، حتى لو بلغ الاستيئاس مبلغه وظن الرسل أنهم قد كذبوا وتقطعت بهم الأسباب فإنه يفتح، إنها الصفة الربانية التى يعطى من عاملهم الله بها تلك النهايات السعيدة.. نعم مع الفتاح النهاية سعيدة فى الدنيا أو فى الآخرة، كربات وأحزان وتضييقات وإغلاقات ثم يأتى الفتح من خير الفاتحين فتزول جميعًا بإذنه ومنّه، المهم أن يعاملك بالفتح، فإذا فتح كان فتحه مبينًا عظيمًا، المهم أن يفتح، فاستفتحوه يفتح لكم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة