كلما استحضرت المشهد يعاودنى الإحساس نفسه الذى غمرنى وآخرين.. إحساس بالخطر الممتزج بالخوف والعجز عن الفعل المضاد. كنا نجلس على الأرض فى «الطرقة» الطويلة الممتدة أمام زنازين الدور الثانى من سجن الاستئناف التى تطل نوافذها على شارع درب سعادة فى باب الخلق والجلوس صفوف متوالية لأن حضرة الضابط ممدوح، الملازم أول آنذاك، كان قد قرر ممارسة شىء من الإنسانية بعد رحلة طويلة من محاولات ترويض الوحش داخله، وترجم قراره بأن أخرج جهاز التليفزيون الصغير من مكتبه فى الدور الثانى وفتح علينا الزنازين لنصطف جلوسا نتفرج على الفيلم العربى، وكان ذلك مساءً أثناء نوبتجيته وهو ممنوع ومحظور بكل المقاييس، وفجأة ونحن مبحلقون للشاشة فوجئنا بواحد يقفز واقفا وكأنه نزل بالباراشوت.. وشهقنا جميعا ووقف البعض ذعرا فيما ممدوح بيه رابط الجأش موجها حديثه لذلك الشبح المخيف: عاوز إيه يا عبدالله؟! ورد عبدالله خاضعا شبه متوسل: عاوز أتفرج على التليفزيون أنا كمان! ورد الضابط: خلاص أقعد وبعدين نتحاسب!
كان عبدالله هو عبدالله الجدى أشهر مجرمى الشرابية.. ضئيل الحجم.. يعنى «قصير ونحيف» قد تتخيل أنك لو نفخته ستطيره.. ولكن إذا ترويت وعلمت فسوف تفر فرارا من طريقه، ولو كنت حضرتك عنتر بن شداد والمهلهل ومحمد على كلاى مجتمعين. لأن الجدى استطاع مرات أن يهرب من محبسه فى الليمانات، وأن يحارب الحكومة، وله سطوة مرعبة فى أوساط الجنائيين من كل حدب وصوب ونوع ودرجة! والأهم من هذا كله أنه أشهر وأجمد قلب ميت فى تاريخ الإجرام حتى تاريخه «1977»! نقلوه من أبو زعبل ولكى يتمكنوا من ترحيله تكاثر عليه السجانون لعنف مقاومته وضربوه فى وجهه بعدة عبوات حارقة تركت أثرها على ملامحه التى صارت متآكلة، ومع ذلك لم يتأثر، فما كان إلا أن أمسكوه ووضعوه فى شوال- جوال- وضربوه وهو داخله بمواسير الحديد حتى أغمى عليه وهيلا بيلا إلى سيارة الترحيلة ثم الاستئناف.
وأذكر أنه يوم وصوله ران صمت عجيب على الدور الثالث، دور الجنائيين، وكنت نزيلا فى زنزانة منفردة تحمل رقم 46 تطل على درب سعادة وأدخلوه زنزانة مواجهة، وفور أن أغلق الباب حتى بدأ ينادى: «كله منه.. واللى منه لا بد عنه.. وأنا ميت.. ميت»، ثم أردف ينادى بالأسماء: «يا أبوشفة» فيرد أبوشفة المجرم من الدور الثالث بأعلى صوته: «نعم يا معلم عبدالله.. تأمر»، فيرد عبدالله: «ابعت أبيض».. ثم يا أبو سريع: ابعت بنى، ثم يا كويتى: أبعت لب.. وهكذا وكل منهم يرد مرعوبا.. وبعدها يحمل الشاويش حارس الليل- خفر الليل- الطلبات من الدور الثالث إلى الدور الثانى حيث زنزانة عبدالله! وكان الأبيض هو الهيروين والبنى حشيشا واللب أقراصا مخدرة. خرج عبدالله من الزنزانة لأنه كان قد استحوذ على غطاء علبة سالمون، ولأن أبواب زنازين الاستئناف خشبية غليظة متهالكة من شدة قدمها صار يبرد خشب الباب بالصفيحة حتى رق ثم بدفعة واحدة من قدمه كان خارج الزنزانة يريد أن يتفرج على التليفزيون مع البهوات السياسيين!
وسألت عبدالله الجدى ذات مرة: من الذى يقدر أن يتغلب عليك؟ فرد مقتضبا: اللى قبلة ميت أكثر منى! تذكرته وتذكرت حكاية القلب الميت فيما أنا مثل غيرى مهموم بما يفعله الإرهابيون فى سيناء وفى الوادى.. واكتشفت أنه تكتيك القلب الميت الذى لن يتغلب عليه ويهزمه إلا استراتيجية القلوب الأكثر موتا.. مضافا إليها عقول تدرك هذه الاستراتيجية وتدير الصراع على قاعدة يا قاتل يا مقتول، ناهيك عن سلاح العلم وفنون المواجهة التى يتعين على أجهزة الأمن والجيش أن تدركها إدراكا عمليا يتجاوز مرحلة اليقين إلى يقين اليقين! الإرهابيون يتحركون بقلوب ميتة.. إما «قاتلين» أو «مقتولين».. وهذا ينزل الرعب فى قلوب الجانب الآخر.. والرعب إذا ما سكن أى قلب صار صاحبه أجبن خلق الله، ولقد سبق واقترحت ومازلت أقترح أن يتم تكوين فرق مقاومة شعبية بإشراف الدولة تضم «قلوبا ميتة» من الذين أدوا دورهم الحياتى مثلى ومثل الذين تجاوزوا الستين لنكون جزءا من حائط الصد وصفا فى طابور حماة الوطن.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة