لعنة ما فى تركيبة الوضع السياسى المصرى جعلت كل شىء دائرا حول شخص الرئيس الجالس فى قصر الحكم، هو الذى يصرح ويجتمع وهو الذى يقرر، وهو الذى يشير، وهو الذى لا تتحرك الحكومات إلا بعد أن يوجهها بسرعة الإنجاز، وهو أيضا الذى يناشده الفقير، ويناشده رجال الأعمال ويستغيث به المريض، ويطالبه بالتدخل أهل النخبة من سياسيين وشخصيات عامة.
وافق رؤوساء مصر على ذلك متعاقبين، أحبوا الأمر وعززوه، ولم نرَ مشهدا لأحدهم يتحرك فيه لتدمير تلك الهالة، أو تحطيم طوق المركزية القاتلة، فيما يبدو اتفق الكل من عبدالناصر وحتى السيسى على محبة كل الخيوط المجمعة فى طرف صولجان الحكم.
لم يعد مستهجنا إذن، أن نشكو الرئيس أو نشكو للرئيس إن وقعت الكارثة، وليس تزيدا أو مبالغة إن حملنا الرئيس مسؤولية الأخطاء كما نشكر له الجيد من الفعل والتحركات.. هو الرئيس وهو المسؤول عن كل شىء، وهو تعهد علنا بذلك: «أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصًا على النظام الجمهورى، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن أحافظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه».
لذا لا تتعجب ولا تتأفف، إن سألنا الرئيس عن أرواح 19 مصريا فقدناها فى كارثة إهمال جديدة بغرق مركب الوراق ليلا، ماذا فعل لحمايتهم؟، وماذا فعل لمحاسبة المقصرين فى اتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين أرواحهم؟!
كان الحادث مؤلما ويحمل من الدلالات ما هو أكثر إيلاما من فكرة الموت غرقا.. الضحايا 19 مواطنا مصريا «غلبان» منهم سيدات وبعضهم أطفال لم تتجاوز أعمارهم الشهور، خرجوا للبحث عن المتعة والترفيه.. فلم يحصلوا لا على المتعة ولا الترفيه لأن المركب غرق بعد خمسة أمتار فقط من بداية رحلته النيلية.
بعض الجثث عادت ليجفف الأهل دموعهم فى أحضانها التى غير الماء ملامحها، وبعض الجثث مازالت فى بطن النيل بصحبة العرائس التى طالما أهداها الفراعنة لشريان الحياة المصرى، غير أن أهل ضحايا مركب الوراق لا هم فراعنة ولا هم يرغبون فى أن يجعلوا من جثث نسائهم وأطفالهم هدايا للنيل.
الحادث نسخة كربونية من جرائم إهمال كثيرة على الطرق والمستشفيات، والضحايا هنا 19 وفى جرائم أخرى بالعشرات أو ربما مواطن واحد فقط.. ومع كل الفوارق تبقى الأسباب والنتيجة متشابهة إلى حد كبير.. طمع وإهمال من صاحب مستشفى أو سائق سيارة أو ناظر محطة قطارات، أو مهندس حى مسؤول عن تراخيص عمارات، وفى كل الجرائم تشترك أجهزة الدولة بفساد موظفيها فى الجريمة.
فى واقعة المركب وصاحبه والصندل وصاحبه أهلمت أجهزة الدولة مراقبة أمور السلامة والجودة والأمان وتقاعست شرطة المسطحات المائية عن دورها فى عمليات التفتيش الدورى على كل ما يسير على وجه النيل، وبدا الإهمال واضحا فى الخلاف الطافى على السطح بينها الجهات المختلفة التى تلقى كل منها بمسؤولية الرقابة على الأخرى.
الكارثة وقعت، والوجع ملأ القلوب داخل وطن أصبحت أجواء عزائه فى أولاده بسبب الإهمال والإرهاب معتادة لدرجة الملل، والملل ينبت إحباطا، والإحباط يولد غضبا خشية أن يتوقف عقاب المقصرين عند تحميل صاحب الصندل المسؤولية كاملة، دون محاكمة المسؤولين فى الحى أو المحافظة أو المسطحات المائية على تلك المراكب الخربة التى تسير بلا رقابة أو تفتيش، وتلك الصنادل التى تطفو على سطح النهر دون قواعد محددة.
أنا فقط أدعو لمحاسبة المجرمين الحقيقيين، أتحدث عن منظومة تستحق العقاب، وعن ضميرنا الذى يرتاح لمجرد أن فردا واحد تم تحميله الذنب منفردا وذهب إلى السجن أو إلى حبل المشنقة، بينما بقية العصابة مستمرون فى التخريب، فهل ترضى بغير عدالة العقاب ياسيادة الرئيس؟!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة