ظللت لمدة طويلة من حياتى أسيرا لهذا المنطق أهى ماشية والسلام ما دام شغالة وما بتشتكيش يبقى أكيد كل حاجة تمام، كان هذا المبدأ ينطبق على كل ما يحتاج إلى صيانة وفحص دورى فى حياتى حتى صحتى نفسها.ظللت لفترة طويلة لا أفكر فى صيانة أى جهاز فى عيادتى حتى يعطب تماما وأفاجأ أنه لم يعد صالحا للاستعمال أو أنه قد توقف بالكلية. فى يوم ما قرر صديق لى أن يفتتح شركة صيانة للأدوات والأجهزة الطبية وكان من الذوق أن أستفتحه وأكون من أوائل من يشجعونه ويُنَفّعونه، لذا قررت أن أقوم بعمل صيانة لأجهزة عيادتى ومن ضمنها أجهزة حفر الأسنان «الكونترا» أو ما يعرف بين مرضى الأسنان بـ«الشنيور» أو «المكنة اللى بتزِن»، الحقيقة «الشنيور» كان شغال كويس- أو هكذا كنت أتصور- لكن قلت فى نفسى بالمرة ما دمنا قررنا عمل صيانة فلنراجعها ما يضرش.. ولنرى إن كانت تحتاج إلى صيانة أو إصلاح، وبالفعل كانت المفاجأة، كانت أجهزة حفر الأسنان فعلا تحتاج إلى صيانة؛ بل كانت فى الحقيقة تحتاج إلى تجديد شامل، كيف لم ألحظ؟ الإجابة: أهى ماشية والسلام! ما دامت الأداة شغالة والأمور ماشية يبقى خلاص، كله تمام، وأكيد مفيش مشكلة.
كان هذا شعارى للأسف فى التعامل مع الأجهزة المسكينة التى أعتقد أنها لو كانت تمتلك لسانا لصرخت به شاكية: ارحمنى حرام عليك أنا جبت آخرى. المهم الفنى ظبط بعض الكونترات «الشنيور يعنى» وبدأت أشتغل بها وكانت المفاجأة.. وكأنى انتقلت إلى بعد آخر وعالم مختلف، سلاسة عجيبة لم أعتدها فى حفر الأسنان وإنجاز وسرعة وراحة فى الأداء كنت قد نسيتهما، بالفعل كنت قد نسيتهما، كنت قد تعودت على الخلل حتى لم ألحظه وتكيفت معه والمهم النتائج وخلاص، نسيت أن هناك ما هو أفضل على الأقل بالنسبة لى ولتسهيل عملى، صحيح كلفنى الأمر أموالا لم تكن فى الحسبان، لكن النتيجة كانت تستحق، بعد أن نفضت عنى الدهشة والانبهار بذلك الأداء الصاروخى للجهاز الذى صار كالجديد سألت نفسى: ماذا لو لم يرد إلى ذهنك عمل تلك الصيانة؟ عادى كنت سأظل أستعمل الجهاز بأقل من كفاءته المفترضة دون أن أظن أو أشعر أن هناك ما هو أفضل إلى أن تقرر الأجهزة أن تتوقف أو تتلف، كان إلف العادة سيجعلنى أنفق مزيدا من الجهد والوقت دون أن أدرك أننى أستطيع توفيره ببعض التكاليف
وتلك هى مصيبة إلف العادة دوما.. يتعود الإنسان الخلل أو الخطأ حتى ينسى تدريجيا الشعور بالصواب، ويتصور أن هذا هو المنتهى وأن ليس فى الإمكان أبدع مما كان، يغفل عن طعم الصحيح من الأشياء ويجافى لذة الأفضل لمجرد انغماسه فى المفضول وعدم افتراضه قط أنه ربما يكون هناك ما هو أحسن لكنه فقط لم يجربه، بل وربما يصعب عليه بعد فترة التكيف مع الصواب والتعامل مع السليم من الأشياء، ينغمس فى المعاصى والغفلات فيألفها ويتعايش معها وينسى تدريجيا جمال التوبة وإحساس نقائها، يدمن الباطل ويتقلب فى زبده فتزول من فؤاده تدريجيا ذكريات الحق وصدى الخير، يرضى بالذل ويتعايش مع الضيم ويصاحب البؤس ويأنس بالهوان والامتهان حتى يفاجأ يوما بنفسه وقد تلاشت من ثنايا روحه معانى العزة والكرامة والإباء، واختفت من ذاكرته لذة العدل وحلاوة القسطاس المستقيم، وهكذا.. ليس الصبر على المقسوم ما أنتقد، ولا عن الرضا بالمكتوب أتحدث، فذلك باب آخر له تفصيله، لكن عن الانتباه لحقائق الأشياء ودرجاتها، والأهم عدم نسيان إمكانية الوصول والتغيير.. التغيير للأفضل الذى يعتبر الانتباه لنقصه وللخلل الذى يعتيريه هو أولى خطوات ذلك التغيير إليه إلى الأفضل والأصلح والأقوم، وكم من أعطال وأعطاب وخلل فى حياتنا سترتها العادة وأخفاها الإلف والتعايش وطمسها ذاك الشعار شعار: أهى ماشية والسلام.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة