نعيش فى وطن له أكثر من وجه، تنقله لنا لوحات الفنانين بأكثر من شكل، يعيش فيه المواطنون بأكثر من روح، بعضها محبط، وبعضها تنوء الجبال بحمل عزيمته، فى أى دولة نعيش؟ وأى مواطن أنت؟ تلك هى المشكلة، مشكلة البحث عن إجابة لسؤال صعب..
فى العام 1996 كان المطرب الشعبى حكيم فى منتصف سلم تألقه، ثم قرر أن يجلس فوق منصة التتويج فخرج للناس بألبوم «افرض مثلا»، من بين أغانى الألبوم «فرقعت» بلغة السوق أو انتشرت أغنية تقول: «انت مين فى دول.. ولا مين فى دول، ولا كل دول.. انت الأمان ولا الضياع.. انت هنايا ولا شقايا.. يا مبكينى ومضحكنى.. يا مداوينى وبتجرحنى».
تعبر الأغنية بشكل أو بآخر عن حيرة ناس هذا الوطن، مع الوطن ذاته، يرونه عظيما وقويا وشامخا فى دقائق، ثم يفاجئهم هو بأنه عاجز وفاشل ومتأخر فى ساعات أخرى، يرونه الفرح ومصدر الضحكة ودواء الوجع كثيرا، وتفاجئهم الأحداث بأنه مصدر البكاء والشقاء والجرح أحيانا، يرونه وطنا قادرا على أن يصنع ثورتين فى ثلاثة أعوام، ويرونه أيضا فى صورة العاجز عن الحفاظ على ثوراته، يرونه وطنا صامدا أمام خطط داعش وأشرار العالم، ويرونه فى صورة أخرى عاجزا عن حماية النائب العام.
تلك هى المعضلة الكبرى، كامنة فى السؤال القائل: كيف لهذا الوطن أن ينجح نجاحا باهرا فى اختبارات صعبة ومستحيلة؟ ويفشل فشلا ذريعا فى اختبارات ساذجة وسهلة وعبيطة؟..
كيف تستطيع هذه الدولة أن تصنع إنجازا مثل قناة السويس الجديدة فى عام واحد بكل هذا التنظيم والترتيب والتخطيط مع نسب أخطاء متناهية الصغر أو تكاد تكون معدومة، بينما نفس البلد عاجز وضعيف ومرتبك وغير قادر على إدارة أزمة غرق مركب الوراق؟!
مصر وطن بين مركبين.. المركب الغرقانة والمركب اللى بتعدى، مركب الوراق ومركب قناة السويس، جريمة غرق مركب فى النيل، وإنجاز قناة السويس الجديدة، ارتباك حكومة محلب، وانضباط وحرفية هيئة قناة السويس، بطء الحركة، والخطوات غير المدروسة فى أزمة الوراق، وسرعة الإنجاز والخطط المستقبلية الواضحة فى هيئة قناة السويس، تضارب وخلافات الأجهزة المعنية بحادث الوراق، وتكامل الأجهزة والمصالح والأشخاص فى مشروع قناة السويس، التصريحات غير المدروسة والبيانات الناقصة والمعلومات المتناقضة فى جريمة الوراق، والتصريحات الموزونة والمعلومات الموثقة، والبيانات المدروسة فى مشروع قناة السويس.
مصر فعلا بين مركبين.. المركب الأول غرق، ومات 40 مواطنا مصريا هكذا فى لحظة، والمركب الثانى أيقظ ملايين المصريين وزرع فى نفوسهم الأمل والثقة.
مصر فعلا بين مركبين.. مركب الوراق يعبر عن أسوأ ما فيها من إهمال وإرتباك وفشل، والمركب الذى مر بنجاح فى التشغيل التجريبى لقناة السويس الجديدة يعبر عن أجمل ما فيها من قدرة على الحلم والتنفيذ.
مصر التى أغرقت مركب الوراق، وطن تغيب عنه معايير الأمان، وإجراءات حماية المواطنين الغلابة، لا يعرف الرقابة، ولا تعرف أجهزته فكرة سرعة الإنقاذ والتحرك ولا كيفية إدارة الأزمة.
مصر التى أغرقت مركب الوراق وفى جوفه 40 مواطنا بينهم أطفال ونساء، لا تملك مسؤولين أو وزراء قادرين على التعامل مع الأزمات، أو يمتلكون شجاعة تحمل المسؤولية، فقط هم كالأطفال يتقاذفون الاتهامات ويلقى كل منهم بالمسؤولية على كتف الآخر.
وجه مصر الظاهر فى حادث مركب الوراق، ملامحه عجوزة وضعيفة ومرتبكة وجامدة لا تهتز لموت الغلابة ولا تتحرك مسرعة لاتخاذ إجراءات حازمة وقاسية لمنع وفاة آخرين.
هناك حيث يوجد الوجه الآخر لمصر، فى تلك المنطقة التى عبرت منها أول مركبة فى قناة السويس الجديدة، يتجلى لهذا الوطن ملامح مختلفة، ترى وطنا قويا ودولة عفية، شكك الناس فى قدرتها على إنجاز المشروع فى سنة، وسخر منه المتربصون وسعى لإحباطها الخصوم، ومع ذلك هزمت الجمع حتى هرب وولى الدبر.
مصر التى حفرت القناة وعدى المركب فى مائها بنجاح هى الدولة التى تملك مسؤولين ووزراء وعاملين فى هيئة قناة السويس قادرين على تحويل الأحلام إلى حقيقة، قادرين على وضع الخطط والجداول الزمنية المدروسة، والتنفيذ طبقا لمنهج علمى وعملى واضح.
مصر التى فى قناة السويس الجديدة، تملك مسؤولين قادرين على الإدارة والتنسيق وتوفير المعلومات، والتعامل بحرفية مع وسائل الإعلام، ووضع معايير أمان ومواصفات عالية الجودة للمنتج الذين أبهروا به العالم فى النهاية.
مصر التى فى قناة السويس الجديدة، هى القادرة على أن تعد العالم وتنفذ وعدها فى سنة، هى القادرة على تنفيذ ما ظنه العالم مستحيلاً، هى التى تكشف الوجه الحقيقى للعالم المصرى، لا تعرف البطء ولا الارتباك، ولا تضارب المسؤوليات.
مصر الأولى تغرق بك فى الإحباط، تصدر لك الحزن ولا تبنى سوى سرادقات عزاء، ومصر الثانية تطير بك فى رحب السماء، تصدر لك الفرح وهى تبنى لك ما يمكنك أن تؤسس عليه نهضة قادمة.. أيهما مصر إذن؟ فى أى مصر نعيش، وأى مواطنين نحن؟! والسؤال الأهم من سيبتلع من؟!، هذا السؤال، أما الدعاء فلا شىء سوى أن يرزق الله مصر بوجه واحد، ثوب واحد، مصر واحدة تتجلى طوال أيام السنة بنفس البريق والقوة التى تجلت بها فى مشروع قناة السويس الجديدة.
محمد الدسوقى رشدى
مصر بين مركبين.. مركب الوراق اللى غرقت ومركب قناة السويس اللى عدت
الثلاثاء، 28 يوليو 2015 10:00 ص
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
ربنا يحفظ مصر من وقف المراكب السايره وغرق المراكب العابره
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
Magdy
لا غرابه في ذلك
عدد الردود 0
بواسطة:
المستشار صالح عبد الحميد
غالبية الشعب فى المركب أللى حتعدى ..المتشائمين أمثالك فقط فى المركب الغرقانة ..
عدد الردود 0
بواسطة:
المهندس رامز جورج
نظرة ضيقة و مقارنة واهية تمثل توهان بعض من مغردى 25 يناير ..