دخل الفرنسيون القاهرة بقيادة نابليون بونابرت عام 1798 فتفننوا فى جمع الأموال بالضرائب الباهظة، ومصادرة الممتلكات بمختلف الوسائل مثل قيامهم بالإذن لنساء المماليك أن يفتدين أنفسهن بالمال ليسكن فى بيوتهن، ويصف عبد الرحمن الرافعى هذه الحالة فى كتابه "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر"بقوله: "هذه طريقة بلغت حد الإعنات والإرهاق فى جمع الأموال من النساء تلقاء أن يأمن على أنفسهن، وهى أشد وطأة من الغرامات الحربية".
وفى قصة نساء المماليك وافتدائهن بالمال ليسكن فى بيوتهن، تصدرت السيدة "نفيسة البيضاء" أو"نفيسة المملوكية" كشخصية دارت حكايات كثيرة حولها أثناء الحملة الفرنسية وقبلها وبعدها، وطبقا لنص الأمر الذى أصدره نابليون بونابرت فى مثل هذا اليوم"1 أغسطس 1798 " فى شأن ما فرض على السيدة نفيسة زوجة مراد بك نجد أنه يقضى بأن تدفع هى وحدها 600 ألف فرنك عن نفسها وعن نساء المماليك من أتباع مراد بك"، وأمام ذلك اضطرت لدفع حصتها فى الغرامة الحربية أن تنزل عن حليها وجواهرها ومنها ساعة مرصعة بالجواهر، أهداها لها القنصل مجالون باسم الجمهورية الفرنسية قبل "الحملة" على مصر تقديرا لخدماتها ورعايتها للتجار الفرنسيين، فلماذا خصها نابليون بكل هذا المبلغ الضخم؟، وكيف كان وضعها؟.
طبقا لما يذكره الرافعى: "هى أكبر شخصية ظهرت بين سيدات مصر فى ذلك العصر"، وهى شركسية الأصل جاءت من آسيا الوسطى وحسب كتاب "دراسات فى تاريخ الجبرتى، مصر فى القرن الثامن عشر "لمؤلفه محمود الشرقاوى" مكتبة الأسرة –القاهرة "، فإن ظهورها بدأ عندما دخلت فى حريم على بك الكبير، فأحبها وتزوجها وبنى لها دارا تطل على بركة الأزبكية فى "درب عبد الحق"، فلما أراد محمد بك أبو الدهب خيانة سيده على بك تحدث إلى المملوك مراد فى ذلك، فاشترط الأخير الزواج بها نظير خيانته، وحدث ذلك بالفعل.
ويتحدث عنها "الرافعى" استنادا على الجبرتى، قائلا إنها كانت على جانب كبير من التثقيف والتهذيب إلى روعة فى الجمال وسمو فى العواطف، وتعلمت العربية قراءة وكتابة، وأقبلت على الكتب العلمية تطالعها وتدرسها، فارتقت مداركها واكتسبت احترام العلماء والبكوات المماليك الذين كان بيدهم الحل والعقد، واجتذبت قلوب الشعب بما اشتهرت به من البر والإحسان ورفع المظالم وحماية الضعفاء، فعظمت مكانتها بين طبقات الشعب، وسرت شهرتها إلى الأوساط الأوروبية، إذ عرف عنها الميل إلى تنشيط التجارة والصناعة ومعارضة البكوات المماليك فى سلب أموال التجارة، وكانت تتبرع بإعانات شهرية لعائلات أحنى الدهر عليها.
ويروى الجبرتى قصة تبين مدى قدرها، فبعد جلاء الفرنسيين أمر خورشيد باشا والى مصر بإحضارها إلى القلعة، واتهمها بأن جارية لها تسعى للاتفاق مع المماليك العصاة لتحريض الجند على التمرد، فأنكرت التهمة وطلبت الدليل قائلة: إذا ثبت أن جاريتى قالت ذلك فأنا المأخوذة به دونها، فأخرج خورشيد باشا من جيبه ورقة وتظاهر بأنها تثبت ما يقوله، فطلبت الورقة لكنه أعادها إلى جيبه، فوبخته قائلة: "طول ما عشت بمصر وقدرى معلوم عند الأكابر وخلافهم والسلطان ورجال الدولة، وحريمهم يعرفوننى أكثر من معرفتى بك، ومرت بنا دولة الفرنسيين فما رأيت منهم إلا التكريم، وكان محمد باشا خسرو يعرفنى ويعرف قدرى ولم نر منه إلا المعروف، وأما أنت فلم يوافق فعلك أهل دولتك ولا غيرهم"، فرد خورشيد: "ونحن أيضا لا نقبل غير المناسب"، فردت: "وأى مناسبة فى أخذك لى من بيتى بالوالى (رئيس الشرطة)، مثل أرباب الجرائم"، فقال: "أرسلته لكونه من أكبر أتباعى فإرساله من باب التعظيم".
اعتذر"خورشيد" لها وأمرها بالتوجه إلى بيت الشيخ السحيمى بالقلعة، وأجلسوها عنده بجماعة من العسكر (أى جعلوها تحت التحفظ) فتدخل العلماء حتى أطلقوا سراحها.
أدركت نفيسة عصر محمد على بعد أن فقدت أملاكها، ولم يبق لها سوى النذر اليسير منها فعاشت فى قلة وفاقة إلى أن توفيت فى عام 1816.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة