وكأنه الأمس القريب أو منذ عدة ساعات، وليس سنوات بعيدة، التقيته وكان مقررا أن نجلس نصف ساعة لإجراء حوار صحفى، لكن امتدت الجلسة لثلاث ساعات، كان ذلك أول حوار صحفى لى مع نجم كبير بعد التخرج من كلية الإعلام، وكان المكان فى مقر شركته «إن بى»، أى نور وبوسى فى عمارة تقع نهاية شارع عماد الدين ناصية رمسيس، لم أصدق نفسى وأنا فى مقتبل حياتى الصحفية أن أنفرد بحوار نجم كبير وكان العنوان الذى اخترته للحوار الذى نشر بمجلة الإذاعة تحت عنوان «نور ذو الألف وجه.. عشرون عاما من الإبداع المدهش».
فى أول اللقاء بادرنى بسؤال تعرف، أنا وافقت أعمل معاك الحوار ليه، بدا لى السؤال «مطب» فقلت أنت هتعمل دور الصحفى وتسأل ولا إيه؟ ضحك ضحكته الجميلة، وأشعل بخورا كان يحبه، وقام ليسألنى تشرب شاى أخضر، وللأمانة كانت هذه أول مرة أسمع عن الشاى الأخضر، فقلت ما عندكش ألوان تانية فضحك مرة أخرى، وقال هاتحبه ده شاى فلسطينى بالزعتر، ماشى، وافقت ليه بقى عالحوار، فقال لأنك طلبتنى من سنتين لندوة فى كلية إعلام، وأنا كنت مشغول بس وعدتك نتقابل أول ما أفضى وبصراحة السنتين اللى فاتوا كنت باشتغل ليل ونهار دلوقت عاوز آخد هدنة، وأفكر فى اللى جاى.
الحاجة التانية الأهم إنى عاوز أعرف جيلكم بيفكر إزاى، وهذه أهم ميزات نور التواصل مع كل الأجيال، قلت يبقى أنت مصر على تقمص دور الصحفى، وأنا اللى عاوز أسأل، قال اسأل، شربت رشفة من الشاى وأبديت إعجابى به، فقال لو الحوار طلع كويس هاديك علبة الشاى وانساب الحوار بيننا بدفء مدهش جعلنى أكتشف أننى أمام إنسان متفرد قبل أن يكون فنانا غير مسبوق فى أسلوبه وأدائه على الشاشة، نور الشريف كان أكثر فنان فى مصر ينطبق عليه تعبير مثقف بمعنى الكلمة، مكتبته فى منزل الزوجية بالمهندسين بشارع لبنان كانت مكتبة جامعة، لذلك كان من أنصار مدرسة الفن رسالة.
نور صنع ثنائيا مدهشا مع الراحل عاطف الطيب من أول «سواق الأتوبيس» حتى «ليلة ساخنة» وكل فيلم بينهما درة إبداعية متكاملة وربما لا يعرف الكثيرون أن عاطف كان يعتبر أحمد زكى ونور الشريف أهم وأعظم اسمين فى تاريخ الفن السابع، وفى أحد الأيام سألته فى منزله بالدقى ما هو وجه الشبه بين نور وأحمد، فقال لى اليتم وشرح بأن أحمد زكى ونور الشريف قدما للحياة بعد أن مات أبوهما والطفل اليتيم يحيا عمره داخله جرح غائر وحزن فى قاع العين، كان ذلك أحد أسرار التأثير لدى الاثنين رغم اختلاف أسلوب كل منهما، نور المغامر أكثر نجوم جيله حبا للمسرح، وكان يقول لى أنا أشحن بطارية الفن داخلى بالمسرح لذلك، وهو فى قمة مجده ذهب وقدم مسرحية كاليجولا على مسرح سيد درويش بالأكاديمية وفتح المسرح للطلبة مجانا، وكان يذهب لمسرح الهناجر ويجلس بالساعات مع المواهب الشابة، وقدم العشرات منهم للشاشة، نور الذى قال للمخرج يحيى العلمى يوما أنا نفسى أقدم أدب طه حسين للشاشة، فكان مسلسل أديب من درر الدراما المصرية والذى كان العلمى يدرسه لمخرجى الخليج وفنانيه كنموذج للدراما الخالدة، إننى لا أنسى البثور فى وجهه، أبرع مما وصفها العميد ولا ننسى مشاهده الجبارة مع نورا، يالله كان بينهما هارمونى ساحر، منذ عدة أسابيع التقيت به فى كافيه معروف بجوار مسكنه، وسألته عن صحته فقال زى مانت شايف، بس أنا هابقى كويس وربنا مش هايبهدلنى هو حاسس بيا، ولو العذاب طول فى المرض هايريحنى، واللى كاتبه أنا راضى بيه، وابتسم ابتسامة واهنة وضعيفة، لكنها لم تخلُ من سحر روحه وصوته، كتمت دمعة، وقلت له إحنا عندنا نور الشريف واحد والنَّاس كلها بتدعيلك، وفجأة قال ما جعلنى أشعر أنه اللقاء الأخير قال إحنا عشرة عمر، وأنت كنت طلبت منى نسجل حلقات تليفزيونية عن مشوارى، ماتزعلش لو حصل واتخطفت وادعيلى، ياااه، بقى هيه كده، حتى الآن ترن كلماته الأخيرة فى أذنى بس نقول إيه ما يتعزش علّى خلقه، الله يرحمك يا عم نور.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة