كنت فى لبنان نهاية الشتاء الماضى، ولفت نظرى حالة النظافة المميزة، لبنان بلد صغير قليل الموارد، أغلب دخله من السياحة وتحويلات أبنائه فى الخارج، بعض الأصدقاء اللبنانيين عتبوا علينا، نحن المصريين، أننا بلد كبير ولدينا إمكانات أكبر ودولة وحكومة، ومع هذا نعانى من مشكلة تراكم الزبالة والمخلفات. كانوا يتحدثون عن مصر بحب، ويقولون لنا: «أنتم المصريين تنتظرون كل شىء من الدولة، ونحن فى لبنان ما عندنا الدولة القوية، ومع ذلك فالنظافة كما هى»، اللافت أننا كلما دخلنا مطعما أو محلا أو مقهى وجدنا المكان نظيفا، والنظافة كانت بالشوارع واضحة إلى درجة كبيرة.
ماذا جرى؟.. كأننا حسدناهم.. تتراكم الزبالة ويخرج اللبنانيون فى مظاهرات ضد القمامة، لبنان بتركيبته وتجاربه بلد صغير متعدد، لكنه ذو تجربة واسعة عميقة، وخبرات تشكلت بالدم، وهو محل تداخلات للسياسة الإقليمية.
وسط هذه الأحوال يجب النظر للمظاهرات التى خرجت ضد السلطة هناك، ترفع شعار «ريحتكم طلعت»، اعتراضا على تراكم القمامة فى شوارع بيروت، لا تخلو المظاهرات من غضب على تناقضات وتداخلات تعطل اكتمال الدولة وإجراء انتخابات الرئاسة، وقد رفعوا شعار الشعب يريد إسقاط النظام.
لبنان بلا رئيس منذ فترة طويلة، فحكومة تسيير الأمور والبرلمان تم التمديد لهما ولم تجر انتخابات، بالرغم من أن الانتخابات كانت تجرى فى عز الحرب الأهلية، هناك تداخلات إقليمية تعطل الاتفاق على إجراء انتخابات الرئاسة، السعودية وإيران لكل منهما تأثير فى السياسة والانتخابات، السلطة فى لبنان هشة لكن الأمور كانت تسير، لكن لا يوجد نظام ليسقط، بل توجد سلطات موزعة، وناقصة.
اغتيال رفيق الحريرى كان الحدث الذى أخرج اللبنانيين وتشكل تحالف 14 آذار الذى يضم قوى مختلفة، وفى مواجهته قوى 8 آذار، و خرج السوريون من لبنان.
اللبنانيون، بكل طوائفهم، غير راغبين فى إعادة تجربة الحرب الأهلية، سمعت من قيادات مختلفة: «كلنا قتلنا وتعرضنا للقتل وتقاتلنا، والقرار هو التعايش معا مهما كان الخلاف»، كان هذا هو ما رأيته من كل الأطراف، اللبنانيون لا يريدون ذكر هذه الحرب الطائفية الأهلية التى التهمت الآلاف، ولا يريدون أن يحكوا لأجيالهم القادمة عما حدث، اعترافا بأن الكل أخطأ.
النظام فى لبنان يقوم على توازنات وخيوط مشدودة وتوترات مكتومة، لا تصلح معها نصائح نشطائنا الذين صحوا من نوم عميق ليقدموا نصائح للبنانيين، أو من ينصحون اللبنانيين بالحفاظ على بلدهم، وعدم تضييعها بمظاهرات بلا جدوى.
بينما اللبنانيون يصرون على تنظيف بلادهم، من قمامة المخلفات، وأيضًا من مخلفات السياسة التى تعطل اكتمال الدولة. الوضع فى لبنان مختلف، وعلى السادة الفلاسفة عندنا أن ينشغلوا بأنفسهم وينظفوا عقولهم قليلا.