كانت شابة جميلة، ولكن أسرتها البسيطة والفقيرة لم تهتم بتعليمها، بل سارعت بتزويجها من رجل صعب المراس شديد الطبع قاسى القلب.. عاملها أسوأ معاملة وتزوج عليها أخرى ثم استغل ضعفها وقلة حيلة أسرتها فطلقها وهى حامل فى ابنها الثانى، لم يهتم بأحكام الشريعة التى تحول بين الرجل وطلاق امرأته وهى حامل.. لأنه «لا يجوز للرجل أن يطلق زوجته إلا فى طهر لم يجامعها فيه».
امرأة صغيرة شابة وجميلة وعفيفة تحمل هم طفلين فى حياة صعبة وقاسية.. زوجها أهمل أولاده ولم ينفق عليهم.. لم تفكر يوما أن تلقى بأولادها فى الشارع.. أو تتخلى عنهم كما تخلى عنهم أو تتركهم وتتزوج واحدا من الذين رغبوا فى الزواج منها، أغلقت قلبها عن نداء الأنوثة والزواج لتتفرغ لتربية أولادها، خاصة أن الجميع كان يريدها وحدها وليس مستعدا أن ينفق على أولادها.. فالجميع ينظر إلى شهوته دون أن يتأمل جوائز السماء أو رضا الرحمن إذا عال أو أعان على تربية هذين الطفلين الصغيرين، لم تجد بُدًّا من الخروج للعمل والتكسب من أجل صغيريها.. تقدمت للعمل كفراشة فى مستشفى الرمد بالإسكندرية فى منتصف السبعينيات.. كان مرتبها وقتها لا يجاوز ستة جنيهات.. لا تسمن ولا تغنى من جوع.. ولكنها كيفت حياتها على الاستفادة بكل مليم فيها.. حمدت ربها أن وجدت عملاً يسترها من سؤال «اللى يسوى واللى ما يسواش» على حد قولها، كبر الأولاد قليلا.. بدأوا دخول المدارس أصبحت الجنيهات الستة اليتيمة لا تكفيهم.. قال لها أولاد الحلال: اطلبى نفقة الأولاد من أبيهم عن طريق القضاء.. رأت الفكرة جيدة والضرورات ملحة ومادام الأب لا يعرف عن الأبوة ومسؤولياتها شيئا فليكن القضاء هو الملزم له بالإنفاق، بعد صولات وجولات حكمت المحكمة لها بنفقة شهرية 13 جنيها.. اعتبرت ذلك نصرا مبينا.. بدأت تدبر «القرش على القرش» كما يقول المصريون.. وتدخل فى جمعيات وتخرج من جمعيات كشأن كل الأسر المصرية رأت «أم رضا» أن العمل كفراشة فى المستشفى لن يكفيها مع النفقة.. رغبت فى العمل فى عيادة طبيب بعد العمل فى المستشفى.. فحصت معظم الأطباء ووقع اختيارها على طبيب يكره المغامرات النسائية «وكالسيف فى معاملته» أو «حركته كالقطار» كما وصفته.. وسيرته طيبة، ولكن حظها العاثر الذى اكتشفته بعد عملها معه هو بخله الشديد.. فقد عملت معه أكثر من عشرين عاماً كاملة ولم يزل مرتبها حتى اليوم 170 جنيهًا.
تصور هل هناك أحد فى مصر يعمل حوالى ست ساعات بـ170 جنيها.. الطبيب «أبخل من جلدة» كما يقولون.. لم يرحم سنها ولا فقرها ولا حاجتها.. ولا يريد زيادة المرتب.. وهى أضعف من المطالبة، خوفًا من طردها، فى سنواتها الأخيرة أصاب السرطان رحمها.. استأصلته.. وبدأت العلاج الكيماوى.. بلغت سن المعاش.. حزنت لذلك كثيرا.. ماذا تفعل لإكمال رسالتها مع أحفادها بعد أولادها.. أشفق عليها رؤساؤها فى المستشفى وقالوا لها يمكن أن تعملى كـ«زهرات» قبلت بسرعة، تخرج ولداها منذ زمن طويل وتزوجا وأنجبا.. ولكن أحدهما تعثر فى حياته.. لا يكفى أولاده الذين يعيشون معها فى غرفة وصالة بنيتا على قطعة أرض صغيرة مساحتها 55م2 فى منطقة عشوائية كانت قد اشترتها لهم من جمعيات متعاقبة، أحفادها يعتبرونها المسؤولة عنهم.. «أين مصروفى يا تيتا؟!» «فين الحاجة الحلوة يا تيتا؟!» فين الفاكهة الحلوة يا تيتا؟!».. لا تستطيع أن تتخلى عنهم.. تعمل فى المستشفى صباحًا.. ثم تذهب إلى عيادة الدكتور البخيل جدا بعدها.. وقد تظل ساهرة فى العيادة حتى 11 مساء.. تعود منهكة من السرطان تارة ومن دوالى الساقين أخرى ومن نزيف يعاودها بين الحين والآخر، تمر علىّ بين الحين والآخر كلما ألمت بها شكوى طبية.. أو تطلب منى أن أرسلها لطبيب جيد كريم ورخيص يهتم بحالتها المعقدة.. تمطرنى وكل من يعمل معى من البنات بدعوات رائعة تخرج من القلب.. أقول للبنات اللاتى يعملن معى: هذه أعظم دعوات نسمعها فى حياتنا تخرج من القلب إلى السماء مباشرة، كلما قلت لها: ألا تستريحين بعد كل هذا العناء.. تقول فى استغراب: كيف أترك أحفادى يحتاجون إلى مساعدتى ووالدهم حتى أمد قريب لم يكن له عمل.. كيف أتخلى عنهم؟!
قلت لها : لقد وجد عملاً الآن.. تقول: إن مرتبه 900 جنيه ولديه أربعة من الأولاد فى المدارس.. فكيف يكفيهم هذا المبلغ؟! تأملت عزمات «أم رضا» وكفاحها المرير فى الحياة منذ تطليق زوجها لها وحتى جاوزت الستين دون كلل أو ملل أو راحة أو استراحة.. وقلت لنفسى: يبدو أن المرأة المصرية كتب عليها الشقاء والعنت والبذل والعطاء والكفاح حتى آخر يوم فى حياتها، سلام لكل امرأة أحسنت إلى زوجها وأولادها وأحفادها.. وأحبت الخالق والمخلوق.. سلام إلى المكافحين والمخلصين فى كل زمان.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة