لا تصدق صورة أو كلمة إلا بعد أن تُعمل عقلك، لا تصدق كل ما نبثه لك فى الإعلام، مرئيًا أو مسموعًا أو مكتوبًا دون أن تكون مجتهدًا فى البحث فى كل الاتجاهات عن جزء من الحقيقة، وأقول «جزء من الحقيقة» لأن معرفة كل الحقيقة تكاد يكون مستحيلة فى عالم صارت فيه الصورة والكلمة تلفان الأرض فى أقل من ثوان معدودة، لا تتصور أنك تملك المعلومة بين يديك وتسرع فى نقلها لغيرك على أنها حق، فى عالم صار أغلبه افتراضيًا ما بين الـ«فيس بوك» و«تويتر»، لا تجزم أنك تنقل الحق أو تستقبل الحق من هذا العالم، ولا تتصور أننى فى هذا المقال سأقول لك الحقيقة لأننى لا أملكها، لكننى فقط سأكتفى بأن أطرح عليك تساؤلات لتفكر وتبحث بنفسك عن جزء من الحقيقة.
إيلان كردى، طفل سورى من الأكراد من كوبانى فى حلب، تناقل العالم صورته وهو طريح على وجهه، غريق على ساحل البحر على شواطئ تركيا. وإيلان باللغة الكردية يعنى حامل رايات النصر، والحق أن إيلان لم يحمل سوى رايات هزيمة الإنسانية، لكن صورته تحمل رايات كثيرة من الكذب والوهم.. كل العالم شاهد الصورة وبكى، وتباكى الشرق والغرب عليها ومنها، ولكن لم يتوقف أحد الباكين أمام حقيقة ما وراء الصورة ونشرها بهذه الكثافة غير المسبوقة فى جميع صحف الغرب والشرق، فمأساة سوريا تدور منذ سنوات، ويكتب عنها الإعلام فى كل الدنيا، ولكن هذه المرة الأمر مختلف، لماذا؟
مأساة المهاجرين السوريين فى مختلف بقاع الأرض يراها الغرب منذ سنوات، ويشارك فى تفاقمها، فلماذا الآن، والآن فقط يتحول من صقر لحمامة سلام حنون يقف أهله طوابير بالورود والطعام والشراب وبكلمة أهلًا وسهلًا باللغة العربية فى انتظار مهاجرى سوريا، لماذا الآن؟ وهل تغير الوضع وصار فجأة أهل الغرب وحكوماته أكثر حنانًا ورقة مع أهل سوريا العرب المسلمين المكلومين، لماذا الآن؟، وهل تغيرت قواعد قبول اللاجئين فى أوروبا والغرب، والتى بمقتضاها يعيش اللاجئ على الأقل ثلاث سنوات سجينًا فى معسكرات لا يُمنح إلا حق الطعام وقضاء الحاجة.
الطفل السورى الذى لم يلحظ أحد أن صورته تشبه رسم «حنظلة»، الشخصية التى ابتدعها رسام الكاريكاتير الفلسطينى ناجى العلى، لكنه ميت على ساحل البحر، التقطتها مصورة تركية بعد أن غيرت مكان غرق الطفل لتبدو الصورة أكثر تأثيرًا، وكانت أسرته هاربة من أتون الحرب لليونان عبر تركيا التى تساهم فى قتل عشرات الأكراد كل يوم، سواء من أهل تركيا، أو من أكراد سوريا فى نفس ذات المكان، فلماذا الآن؟
ليس من بين أهدافى لكتابة هذا المقال أن أدافع عن مصر وأهلها أمام أصوات تخرج منها لتدين مصر وغيرها من الدول العربية، وتقول إن الغرب الكافر أحنّ على العرب، مسلمين ومسيحيين، فكلنا شهود على مأساة شعوب عربية، ومنطقة يسعى البعض لتفريغها من أهلها كما حدث فى فلسطين منذ النكبة، ولكن ألا تسأل نفسك أن نفس هذا الغرب الشديد الإنسانية الآن مع بعض من أهل سوريا أمام الشاشات هو الذى ساهم مجتمعًا فى ضرب العراق بأسلحة محرمة دوليًا، وحوّل ذات أطفالها إلى أشلاء وضحايا أمراض قاتلة، وترك من ترك ليواجه الموت حتى الآن، فلماذا الآن يذرف الدمع على إيلان وحده، ويلقى الورود للنازحين السوريين، لماذا الآن، والآن فقط؟.. الغرب كافر، والشرق ما بين مسلم وكافر، هكذا يقولون.. والغرب يفيض إنسانية، والشرق يفيض وحشية، هكذا يصورون.. فكر قليلاً فيما يقولون ويصورون قبل أن تقول آمين.. وعود على بدء، لا تصدق كل ما نقول ونكتب ونصور، ولكن أَعْمل عقلك، فالحقيقة تحتاج إلى جهد أكبر بكثير من جلسة على «فيس بوك» أو كبسة زر.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة