الجمعة 28 يناير 2011، المشهد فى شارع قصر العينى كان على النحو التالى: بعض الشبان يخرجون من الشوارع الجانبية، ويقذفون قوات الشرطة، المتمركزة أمام مجلس الشعب وفى إشارة المبتديان بالطوب والحجارة، وترد عليهم قوات الأمن بالقنابل المسيلة للدموع، فيتفرقون وينسحبون ثم يعاودون الهجوم بنفس الطريقة، وترد عليهم قوات الأمن بنفس الأسلوب، ليس هناك شىء مقلق أو يوحى بالسيناريو الدرامى الذى حدث بعد ذلك.
فى الساعة الخامسة والنصف، ظهرت سيارة أمن مركزى مسرعة خرجت من شارع مجلس الشعب، ويجلس فوقها ضابط وجهه أبيض أحمر، ويصرخ بأعلى صوته «اجمع، اجمع»، ووراءه طابور من سيارات الأمن المركزى يقفز فيها الضباط والجنود، وتدخل بسرعة وراء بعضها يمينا فى أحد الشوارع الجانبية، وتكرر نفس المشهد فى ميدان التحرير، وأصبح قلب القاهرة خاليًا تمامًا من أى تواجد أمنى، بعد الانسحاب الغامض والمفاجئ للشرطة، ولو بقيت فى مكانها، لما حدث شىء من الخراب والدمار والحرق والنهب والسلب.
بمجرد انسحاب الشرطة انشقت الأرض عن مئات المتظاهرين، خرجوا من الشوارع المجاورة لنقابة الأطباء، فى اتجاه ميدان التحرير، ويحملون فى أيديهم الشوم والعصى، ويدمرون أى شىء فى طريقهم، وينهبون الأكشاك التى فر أصحابها، وعندما وصلوا إلى مبنى الحزب الوطنى مقر القاهرة فى منتصف الشارع، دخلوه بعد تردد ونزعوا صورة مرسومة على السجاد للرئيس الأسبق مبارك، وأحرقوها فى منتصف الشارع، واندفع العشرات داخل المبنى وخرجوا يحملون ما بداخله، من كراسٍ وأجهزة كمبيوتر وتليفزيونات وخلافه، وهموا بإشعال النار فى المبنى، ولكن تصدى لهم عمال البنزينة الملاصقة للمبنى، خوفًا من امتداد النيران.
إنها أطول ليلة عاشتها القاهرة، وجموع المتظاهرين تأتى من كل فج عميق إلى ميدان التحرير، وتدمر فى طريقها كل شىء، وتم اقتحام مبنى الحزب الوطنى الرئيسى على كورنيش النيل، ونهب ما فيه وإشعال النيران التى ارتفعت ألسنتها إلى السماء، وبدأ الهجوم المنظم على الأقسام والسجون فى ساعة صفر محددة، وظهرت اللجان الشعبية فى الشوارع والميادين، تفتش السيارات، وتقطع الطرق بكتل من الأحجار والأخشاب، وكأن أفرادها كانوا مدربين على هذا العمل منذ فترة طويلة.
لماذا انسحبت الشرطة، ومن الذى أصدر إليها الأوامر، لدرجة أن وزارة الداخلية نفسها لم يكن فيها جندى واحد للحراسة؟ وكان آخر من غادرها وأغلق أبوابها بيديه المرحوم اللواء حمدى عبدالكريم ومعه بعض ضباط إدارة العلاقات العامة، وأنقذهم الله من موت محقق، عندما هاجمهم بعض المتظاهرين، وقامت قوات الجيش بتأمينهم، حتى وصلوا إلى مبنى مجمع الشرطة بالدراسة، أين ذهبت المدرعات والخيالة وقوات اقتحام الموانع، وحتى الكلاب البوليسية الشرسة المدربة؟
لقد كانت تستعرض عضلاتها وقوتها الساحقة، خلال الاحتفال بعيد الشرطة قبل أسبوع واحد، بحضور مبارك وكبار رجال الدولة، وقال حبيب العادلى إن رجال الشرطة مسلحون باليقظة والحزم فى إجهاض أى محاولة آثمة لنشر الإرهاب على أرض الكنانة، وتخيلنا أنه واثق من نفسه، وقادر على احتواء شرر اللهب التى كانت تتصاعد فى الأجواء.
أيام حزينة مرت ككابوس ثقيل، ما خفى منها كان أعظم، حتى نزل الجيش إلى الشوارع لإنقاذ البلاد من الفوضى والمصير الأسود.. ياليتنا نذكّر الناس بأوجاع عاشوها، ولكنها تدخل دوائر النسيان، نذكرهم بمصر التى كتب لها عمر جديد، وكانت على وشك التفكك والضياع.