الروايتان متجاورتان على مكتبى، أعود بين الحين والآخر إلى عالمهما المدهش، وسردهما الجميل، فوزهما المستحق مناصفة بجائزة «ساويرس الثقافية»، أعادنى إليهما من جديد، رواية «باب الليل» للمبدع وحيد الطويلة، ورواية «ساعة رملية تعمل بالكهرباء» للمبدع رضا البهات.
تنتمى «باب الليل» إلى روايات «الانكسارات والهزائم»، يأخذنى هذا النوع من الروايات إلى حكايته بكل ما تحمله من أحزان وأفراح، وشاعت فى أدبنا العربى منذ سبعينيات القرن الماضى على أثر هزيمة المشروع القومى بنكسة 5 يونيو 1967 ثم رحيل عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970، والتراجع الذى بلغ ذروته بالصلح مع إسرائيل بدءًا من اتفاقية كامب ديفيد بين السادات وإسرائيل عام 1979، ويهيأ لى أنه لو تصدى باحث أو ناقد أدبى لدراسة طويلة عن روايات الانكسار فى الأدب العربى لكان الحصاد رائعا، هناك روايات عديدة تنتمى لهذا النوع لـ«رضوى عاشور، وعلاء الديب، وبهاء طاهر، وعبدالرحمن منيف، وجمال الغيطانى، ومحمد المنسى قنديل، ومحمد البساطى، وإبراهيم عبدالمجيد، وفتحى إمبابى»، بعضها عاد لحكايات التاريخ ولكن عينه على الحاضر، وبعضها تعامل مباشرة مع واقعنا بكل ما فيه من قبح هزائمنا العامة، وهزائمنا الشخصية.
فى «باب الليل» يفتح وحيد الطويلة باب الحكايات عن المأساة الفلسطينية، وهو باب ضمن أبواب لحكايات أخرى، كتبها بلغة شاعرية وسرد متقن، وحكى متداخل رغم كثرة شخوص الرواية التى كتبها بمعايشته لعالمها فى تونس حين خرج من مصر مطاردًا من فاسد فى نظام مبارك، عاش هناك بقايا حالة فلسطينية، حالة بدأت بانتقال منظمة التحرير الفلسطينية بقيادتها والعديد من مقاتليها بعد خروجها من لبنان 10 أغسطس 1982، وبعد 10 سنوات جاء اتفاق أوسلو «13 سبتمبر 1993» الذى أعاد ياسر عرفات إلى غزة، ومعه الجميع، باستثناءات شملت فدائيين رفضت إسرائيل عودتهم لارتكابهم حوادث قتل ضد الإسرائيليين، فصاروا محرومين من العودة، فأصبح مقهى «لمة الأحباب» فى تونس طبقًا لتسمية صاحبته، أو مقهى «الأجانب» طبقا لتسمية البعض، براحا واسعا يعج بهؤلاء:
«لم يجدوا أسماءهم فى كشوف السلطة الفلسطينية، فى القوائم الإسرائيلية كانوا ومازالوا، ممنوعين من العودة، أياديهم ملطخة بدماء الإسرائيليين، وأرواحهم ملعونة أيضا، وعليهم إن تنفسوا أن يفعلوا ذلك فى مكان آخر يستحسن أن يكون قبرا سحيقا فى جوف الأرض، رحل الجميع وتركوهم كما لو كانوا مصابين بالجرب.. أسماء مكتوبة بالأحمر فى إسرائيل، مشطوبة بالأحمر فى كشوف الفلسطينيين، رحلوا دون أن يتذكروا مهمة التوديع، ولو بأحضان مرتبكة، حشروا هنا، لا علم يستظلون تحته، لا أرض ولا عشيرة، لا ضفة يقفون عليها ليلوحوا لأى قبطان أو شيطان، حشروا وبقوا محشورين من وقتها فى أحلامهم البطيئة الكسولة وكوابيسهم السريعة».
فى شخوص الراوية ومن واقع المأساة الفلسطينية، سنجد نماذج مهمومة من باب الانتماء الأيديولوجى، يجذبك هؤلاء الذين عاشوا الحلم بالانتصار ثم يعيشون مأساة الهزيمة فيكون الانكسار، حتى يهيأ لنا أن غزوات اللذات الجسدية لهؤلاء فى «حمام المقهى» الذى يجعله «الطويلة» مسرحه لهذا، تبدو وكأنها تحقيق للذات بعد هزائمهم العامة، فلا أرض تحررت، ولا استبداد لقى هزيمته، ولا نضال بقى على تألقه ببندقيته.
وسط هذا العالم الخرب سنجد نماذج يرسمها «الطويلة» بريشة الأسى، «أبو جعفر» المناضل القومى الفلسطينى الذى وجد فى صدام حسين نموذجه، ثم سقط حلمه بسقوط بغداد، وأبو شندى «عاش» عشرين عاما من النضال تحت راية الثورة الفلسطينية فى بلاد الله ومثلها فى تونس بعد أن طارت الراية أو تبدلت، لم يعرف لعب الأطفال، لم ينم ليلة على أغنية مفرحة، لم يعرف سوى أسماء الشهداء، وفى المقابل منع من العودة إلى بلاده»، وشادى، الشاعر السورى حامل السلاح لاستعادة فلسطين: «كنت أحلم بدخول فلسطين مع الداخلين، مثلهم أغنى لهم، أنا الحادى، أدخل لأضع كوابيسى تحت وسادتى وأنام أو أموت سعيدًا».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة