وعددت المؤسسة 11 منطقة ستشهد خلافات حادة على مصادر المياه، أغلب تلك المناطق بدأت معالم الصراع تظهر بها بالفعل، وهى خلافات كل من تركيا وسوريا والعراق حول نهرى دجلة والفرات، ثم إيران والعراق، اللتين ستتنافسان- وفقًا للدراسة- على شط العرب، وهناك أيضًا مصر والسودان وإثيوبيا حول نهر النيل.
ولا يخلو التصور السابق من سيناريوهات تطرح تدخل قوى عظمى فى المنطقة، لحسم الصراعات حول المياه لصالحها، أو لصالح أكبر حليف لها بالمنطقة، وهى إسرائيل التى تعتمد مصادرها المائية بالأساس على الأراضى التى احتلتها عقب هزيمة 1967، وهى الأراضى التى تنص جميع الاتفاقيات الحديثة على ضرورة تخلى الجانب الإسرائيلى عنها.
تهديدات سد النهضة
كان لعبارة «مصر هبة النيل» التى أطلقها المؤرخ هيرودوت، وحفظها ملايين المصريين عن ظهر قلب، ثمنها، فمع المقدرة غير المحدودة لنهر النيل فى خلق حضارات عظيمة مستقرة على ضفافه، كالحضارة الفرعونية، ظهرت أطماع لا تنتهى، كانت تؤدى إلى احتلال الأراضى المصرية طمعًا فى خيرات النيل، والتى تهدف إلى خلق إمبراطورية مصرية واسعة، كما حدث عندما وقفت الدول الغربية ضد مشروعات محمد على.
واستمرت الأطماع فى خيرات مصر حتى ظهرت دولة إسرائيل التى حاولت لسنوات إقناع الجانب المصرى بتحقيق مطامعها فى مياه النيل، لكنها أخفقت أكثر من مرة، خاصة عند محاولاتها إقناع الرئيس المصرى الراحل محمد أنور السادات بتحويل نسبة %1 من مياه النيل إلى صحراء النقب، ضمن الأجواء التى صاحبت اتفاقية السلام بين البلدين، وقد أعقبت ذلك محاولات من الجانب الإسرائيلى لتعميق العلاقات بينه وبين دول حوض النيل، للضغط على مصر، ومراقبة موقفها المائى.
ومنذ بناء السد العالى تسعى إثيوبيا، دولة المنبع، إلى إعادة توزيع حصص المياه على دول حوض النيل، وإعادة مراجعة الاتفاقيات التى تم توقيعها خلال استعمار أغلب دول حوض النيل أيضًا، والتى وقعت ما بين عامى 1902 و1925 بين كل من بريطانيا نيابة عن الجانب المصرى، وإيطاليا نيابة عن إثيوبيا، وفيها أقر الجانب الإيطالى الحقوق المائية لكل من مصر والسودان، وتعهد بعدم قيام بناء أى من سدود وبحيرات من شأنها التسبب فى الإضرار بالحقوق المائية للبلدين.
وخلال الثمانينيات من القرن الماضى تم إعداد دراسات لبناء السد، بمشاركة خبراء من الجانب الإسرائيلى، كما أن إسرائيل أبرمت عدة اتفاقيات عسكرية وأمنية مع إثيوبيا، على رأسها اتفاقية عام 1998 التى منحت إسرائيل تسهيلات عسكرية واستخباراتية فى الأراضى الإثيوبية.
ويرى المؤيدون لكون السد الإثيوبى مؤامرة تهدف إلى إصابة مصر بعجز مائى، أن تلك العلاقات الوثيقة بين إثيوبيا وإسرائيل كانت سببًا مباشرًا فى شروع دولة المنبع فى بناء سد النهضة، دون العودة لدولة المصب، فى ظل غياب الوجود المصرى فى أفريقيا.
وبدأت الأنباء تؤكد شروع الجانب الإثيوبى فى بناء سد النهضة عام 2011، مستغلة الوضع السياسى غير المستقر داخل مصر، بسبب الظروف التى صاحبت قيام الثورة المصرية، وقد ظهر واضحًا أن السد الذى من المقرر أن ينتهى بناؤه عام 2017 سيؤثر بشكل مباشر على حصة مصر من المياه، فضلًا على إمكانية توقف توربينات السد العالى بشكل جزئى أو كلى، لتتعرض عدد من محافظات مصر إلى إظلام كامل.
ورغم كون إثيوبيا تحتاج إلى السد لتوليد الكهرباء اللازمة للمشروعات التنموية، فإن الحديث عن سد إثيوبيا لم يبدأ إلا عام 1958، وفقًا لتصريحات سابقة لمحمد نصر علام، وزير الموارد المائية السابق، الذى أكد أن سد النهضة جاء بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية التى بدأت فى إعداد دراسة لبناء مجموعة من السدود بدول المنبع، ردًا على تحدى جمال عبدالناصر للمجتمع الغربى، وبنائه السد العالى.
وقد تم الانتهاء من تلك الدراسات والإعلان عنها عام 1964، وكان من المفترض أن تبدأ إثيوبيا وقتها فى بناء السد، إلا أن العلاقات الجيدة بين الجانبين الإثيوبى والمصرى فى ذلك الوقت أفشلت المخطط، وفى عام 1979 تم طرح السد مرة أخرى، وبدأت عملية البناء به بالفعل، إلا أن الرئيس الراحل أنور السادات تصدى له، وهدد بالحرب، فتوقف بناء السد، بعدها تكررت المحاولات على استحياء حتى تم استغلال ظروف مصر السياسية عقب قيام الثورة.
طريق مسدود
ومع كل المساعى الدبلوماسية التى يقوم بها الجانب المصرى، يبدو طريق المفاوضات مغلقًا، بدءًا من اللجنة الثلاثية التى عقدت خلال عام 2013، والتى طرح عبرها الجانب الإثيوبى دراسات غير كاملة ودقيقة حول السد، رغم الشروع فى بنائه قبل ذلك التاريخ بعامين، وصولًا إلى رفض الجانب الإثيوبى المقترح المصرى بزيادة عدد فتحات سد النهضة، لضمان استمرار تدفق مياه نهر النيل لدولتى المصب، مصر والسودان، خاصة فى غير أوقات الفيضان.
يأتى ذلك فى ظل دراسات صادمة تؤكد أن نصيب الإنسان المصرى سينخفض بحلول عام 2050 إلى 625 مترًا مكعبًا فى السنة، وهى نسبة تقترب إلى حدود الفقر المائى، وتتساوى مع نصيب الفرد فى دول الخليج، وقد أجريت تلك الدراسات قبل ظهور الحديث عن بناء إثيوبيا للسد، أى دون التطرق لتأثير السد على المياه فى دولة المصب.
ولم تكن دولة العراق بعيدة عن أزمات المياه هى الأخرى، فرغم تمتعها بنهرى دجلة والفرات، حيث قامت أقدم الحضارات التى عرفتها البشرية، فإن الأمر لم يخل من الشد والجذب مع دولة المنبع، تركيا، خاصة منذ السبعينيات من القرن الماضى، حين بدأت تركيا فى بناء عدد من السدود، فى سبيل التوسع فى رقعة الأراضى الزراعية على حساب حقوق العراق، ودون مراعاة للمواثيق الدولية الخاصة بحقوق المياه.
وقد عقدت أولى الاتفاقيات المائية بين تركيا والعراق عام 1946، وبموجبها اعترفت الحكومة التركية بحقوق العراق المائية، والتزمت بعدم القيام بأى عمل من شأنه المساس بتلك الحقوق، ولكن فى عام 1976 أخلّ الجانب التركى بهذا الاتفاق، حين قرر بناء سد «كبيان» الذى تزامن مع ملء سد آخر فى سوريا، مما عرض نهر الفرات فى العراق لجفاف شبه كامل.
ونظرًا لخطورة الحادث السابق، قررت البلدان الثلاثة، سوريا والعراق وتركيا، الجلوس على مائدة المفاوضات، من أجل الوصول إلى اتفاق يحمى حقوق كل من سوريا والعراق، دولتى المصب، ويلزم دولة المنبع، تركيا، بتنفيذها، فتم الاتفاق على تشكيل لجنة فنية، لكنها تجمدت بعد عشر سنوات من المباحثات غير المجدية، بعدها تكرر حادث جفاف نهر الفرات عام 1990 حين حولت الحكومة التركية النهر لملء بحيرة أتاتورك.
وفى دراسة للباحث العراقى دكتور حسن الجنابى، أكد أن الوضع السياسى للعراق خلال حربى الخليج الأولى والثانية، وما تلاه من حصار اقتصادى وغزو أمريكى، كل هذا ساهم فى انشغال الدولة العراقية عن حماية حقوقها فى نهرى دجلة والفرات، فى حين استمرت الدولة التركية فى بناء السدود، وكان آخرها سد «اليسو» على نهر دجلة، والذى من المقرر أن يحرم العراق من نصف الحصة المائية لدجلة، أو منعها تمامًا فى مواسم الجفاف.
دجلة والفرات
مجلة «فورن أفيرز» الأمريكية اهتمت بصراع المياه بين العراق وتركيا، وذكرت فى مقال تحليلى نشر فى شهر مارس من عام 2014 أن السدود التى سارعت تركيا لبنائها خلال السنوات القليلة الماضية ستؤدى إلى حرمان العراق من ثلث حصته فى مياه نهر الفرات، ونصف حصته من نهر دجلة، الأمر الذى سيغير من خريطة العراق الزراعية، والتى تخلت بالفعل عن %50 من مساحتها الزراعية منذ عام 2011، بسبب الصراعات السياسية، وأزمات المياه.
وذكر التقرير أن تركيا تتعامل مع نهرى دجلة والفرات كأنهار مائية محلية، وليست دولية، وأن هناك معلومات تؤكد نية تركيا بناء ما يقرب من 1700 بحيرة وسد مائى داخل حدودها.
وبذلك نجد أن الجانب التركى يسعى لفرض سياسة الأمر الواقع على دولة العراق، حتى تأتى للتفاوض على حصتها المائية، بعد الانتهاء الفعلى لبناء السدود من قبل تركيا، فى ظل تحدٍ واضح لما تفرضه الاتفاقيات الدولية الخاصة بالأنهار، وتجاهل اعتراضات دول إنجلترا وسويسرا وأستراليا، التى سبق لها الانسحاب من تمويل مشروعات خاصة ببناء سدود لصالح تركيا على نهرى دجلة والفرات، بسبب عدم الاتفاق مع الجانب العراقى قبل بدء البناء.
سوريا بدورها لم تكن بعيدة عن الصراع على مصادر المياه، فبجانب صراعها مع الجانب التركى حول حصتها المائية من نهرى دجلة والفرات أيضًا، تعانى سوريا من سيطرة الجانب الإسرائيلى على هضبة الجولان التى تحوى مياهًا جوفية تمد المستوطنات بنسبة %40 لحاجاتها من مياه الشرب.
وتقع هضبة الجولان بين نهر اليرموك من الجنوب وجبل الشيخ من الشمال، وكانت الهضبة بكاملها ضمن الحدود السورية حتى حرب 1967، حين احتل الجيش الإسرائيلى ثلثى مساحتها، وسط مطالب لا تنتهى من الجانب السورى باستعادتها.
وفى مقالة نشرت بجريدة «كونتر بانش» الأمريكية، بعنوان «حرب أمريكا على المياه فى الشرق الأوسط»، ذكر كاتب المقال أن إسرائيل فى البدايات الأولى للثورة السورية كانت تتواصل مع الدول الغربية، لحشد التأييد لصالح المعارضة السورية، وذلك أملًا فى أن تؤدى حالة عدم الاستقرار فى سوريا إلى نسيانها الحق التاريخى فى هضبة الجولان.
ونقلت المقالة عبارة منسوبة لمائير داجان، أحد رؤساء الموساد الإسرائيلى، والذى قال: «سوريا أخطر على إسرائيل من إيران، حتى مع امتلاك الأخيرة للقنبلة النووية، وذلك بسبب تحكم سوريا بنصف المياه اللازمة لإسرائيل»، فى إشارة إلى هضبة الجولان المحتلة.
تجفيف الآبار
وتعانى دولة فلسطين المحتلة من أزمات متكررة فى المياه، بسبب سيطرة الجانب الإسرائيلى على مصادر المياه، ومنع الجانب الفلسطينى من حفر الآبار، وعمل الدراسات المائية، ضاربة بالمعاهدات والاتفاقيات عرض الحائط، فى ظل صدور العديد من التقارير الفلسطينية التى تثبت أن الأراضى الخاضعة للسلطة الفلسطينية وقطاع غزة تتعرض لمشكلات فى المياه، بسبب ذلك.
ويعود أصل مشكلة المياه فى فلسطين إلى عام النكبة، حين استولى الجانب الإسرائيلى على معظم المناطق الوفيرة بالمياه، وبعد حرب 67، عمدت إسرائيل إلى إصدار عدد من القانون تتيح لها السيطرة على مصادر المياه، ومنع بناء أى من محطات المياه والآبار للجانب الفلسطينى إلا بتصاريح، وإجراءات معقدة، مع تدمير أى منشأة مخالفة، فى المقابل تسمح لسكان المستوطنات الإسرائيلية بذلك، دون قيد يذكر.
وفى الضفة الغربية تقوم شركات المياه الإسرائيلية بسحب مخزون المياه الجوفية عن طريق 7 آبار قامت بحفرها، بدءًا من الستينيات من القرن الماضى، بعدها تعيد توجيه تلك المياه إلى الجانب الفلسطينى، وبيعها بأسعار باهظة، وقد أدت سياسة المياه الجائرة تلك إلى تجفيف 50 بئر مملوكا للجانب الفلسطينى فى الفترة ما بين 1967، وحتى مطلع الثمانيانات من القرن الماضى.
وقد أثبتت دراسة فلسطينية حديثة أن استهلاك المواطن الإسرائيلى من المياه يعادل استهلاك المواطن الفلسطينى 5 مرات، وأن إسرائيل لم تلتزم بالمعاهدات التى أجرتها مع السلطة الفلسطينية، والخاصة بإدارة الموارد المائية، فقد صيغت جميع المعاهدات بطريقة غير محددة تسمح بالتلاعب.
وعلى سبيل المثال، نجد أن المادة الخامسة من الفقرة الثالثة من اتفاقية ترتيبات الحكم الذاتى الفلسطينى التى وقعت عام 1993 تشير إلى أن المفاوضات المستقبلية سوف تشمل قضايا المستوطنات والحدود والعلاقات، وغيرها من الموضوعات ذات التعاون المشترك، بما فيها الموارد المائية، دون تفسير للحقوق والواجبات لكل من الأطراف الموقعة على الاتفاق.
وجاء ضمن بنود اتفاقية طابا التى وقعت عام 1995 تعهد إسرائيل بزيادة حصة المياه المخصصة لفلسطينيى الضفة الغربية بـ 28 مليون متر مكعب، وتشكيل لجنة مائية مشتركة لإدارة موارد المياه، إلا أن الجانب الإسرائيلى لم ينفذ أيًا من المواد السابقة.
ويمكن اعتبار نهر الأردن من ابرز الأنهار فى المنطقة العربية التى تعانى من الصراع السياسى، رغم المقدرة المائية المحدودة للنهر، فمنذ النكبة الفلسطينية، عمدت إسرائيل إلى استغلال مياه النهر، وزيادة حصتها منه، رغم كونه نهرًا مشتركًا بين أربع دول، هى الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان.
وقد بدأت مشكلة نقص المياه تظهر فى الأردن عقب تحويل الجانب الإسرائيلى مجرى نهر الأردن إلى صحراء النقب عام 1964، وكالعادة هدفت إسرائيل خلال ذلك إلى تغيير الواقع على الأرض، حتى يقوى موقفها خلال المفاوضات التالية، وفى عام 1994 عقدت أولى الاتفاقيات فيما يخص الموارد المائية، بين الجانبين الأردنى والإسرائيلى.
وقد تضمنت الاتفاقية عبارات حول عدالة التقسيم، وتجاهلت الحق الأردنى فى مياه بحيرة طبريا، واعتبرت إسرائيل التغيرات التى أحدثتها فى نهر الأردن أمرًا واقعًا لا يجوز التفاوض فيه، وفى اتفاقية عام 1996 كان الاتفاق عامًا مرتبطًا بالسلام، ولم يعط حقوقًا إضافية للجانب الأردنى.
وتعد الأردن واحدة من عشر دول على مستوى العالم تعانى من الشح والفقر المائى، حيث يقل نصيب الفرد من المياه سنويًا بمعدل يصل إلى %85، ورغم المفاوضات الممتدة بين الجانبين الإسرائيلى والأردنى، فإن تلك المفاوضات لم تمنح الأردن حقوقها المائية المهدرة.
موضوعات متعلقة:
- مستشار الرئيس: لابد من التوفير الصارم لاستخدام الموارد ومواجهة الفقر المائى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة