كمال حبيب

أزمة التدين الحركى «1-3»

الإثنين، 18 يناير 2016 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تحدثت من قبل عن أزمة التدين الشكلى، واليوم أتحدث عن أزمة التدين الحركى، والتدين الحركى يصطنع قواعد يستدعيها من الشريعة لتوظيفها حركيا وإضفاء طابع دينى عليها، ومن ذلك مثلا «الضرورات تبيح المحظورات»، هذه قاعدة أصولية استخدمها الفقهاء لإباحة المحظور إذا تعرضت حياة الإنسان للخطر، فيجيزون أكل الميتة بقدر ما يدفع الهلاك عن الإنسان، ويجيزون نظر الطبيب لعورة المريض للحاجة، بيد أن الفقهاء حين وضعوا تلك القاعدة المأخوذة من حديث النبى صلى الله عليه وسلم «لا ضرر ولا ضرار»، لم يتركوها هكذا مطلقة، وإنما قالوا: إن الضرورة تقدر بقدرها، وأن الإباحة من أجل الضرورة لا تكون إلا بالقدر الذى يدفع تلك الضرورة.

واعتبروا مثلا أن الضرورة للحفظ وليست للعدوان، بمعنى أن الضرورة لا تدفع المسلم لأن يقتل مسلما آخر لإبقاء حياته هو، أو يقدم على انتهاك عرض مسلمة ليحفظ حياته، فالإكراه الملجئ أو الضرورة الملجئة لحفظ نفس الإنسان لا يتجاوزها إلا دفع الضرر على نفسه بضرر أكبر يؤثر فيه نفسه على مسلم آخر أو التعدى على عرض مسلمة، فهذا محظور لا تبيحه الضرورة.

وقد أخذ المتدينون الحركيون القاعدة التى بذل الفقهاء فى وضع ضوابط لها، دون إدراك لضوابط الفقهاء على القاعدة، أخذوها وكأنها قاعدة مطلقة، فتجد تعليمات التدين الحركى أن ضرورة تحقيق أهداف التنظيم قد تبيح التجسس، وقد تبيح القتل وقد تبيح لبس الموضة، والتخفى فى وسط من يطلقون عليهم كفار أو فساق، فيمكن أن يدخل أماكن فيها محرمات، وقد يشرب الخمر وقد يعلق صلبانا، وهذا كله فى سبيل تحقيق ما يعينه التنظيم هدفا له، وقد يكون من بين تلك الأهداف قتل أنفس معصومة، وذلك كله تبيحه ضرورة الحفاظ على التنظيم وأسراره، فالضرورة هنا هى التنظيم، والمحظور هو ارتكاب ما يحقق الحفاظ على ذلك التنظيم من أول القتل وحتى معاقرة المحرمات. أخذ المتدينون الحركيون القاعدة على إطلاقها، فبسطوا الضرورة إلى منتهاها والمحظور إلى منتهاه بلا تقييد، فجعلوا من الحفاظ على التنظيم عملا مقدسا يبيح أى شىء آخر، حتى لو انتهك عضو ذلك التنظيم جميع المحرمات والمحظورات، لأن بقاء التنظيم وضرورة الحفاظ عليه هو ضرورة مقدسة تبيح أى محظور.

ولقد راجعت كتابا كنت قد قرأته فى أول أيام إقبالى على العمل الإسلامى، وهو كتاب «فتحى يكن» أبجديات التصور الحركى للعمل الإسلامى، وفى الكتاب يضع مؤلفه أحد قيادات الجماعة الإسلامية فى لبنان، التى تعد فرعا للإخوان هناك، وقد ترك التنظيم قبل وفاته، تصورا حركيا للعمل الإسلامى، يضع المتدين الحركى فى ورطات مروعة بعيدة تماما عن الإسلام، الذى فرضه الله على عباده وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم إلى أتباعه، فلو قتل المتدين الحركى باعتبار أن القتل محظور فرضته ضرورة الحفاظ على التنظيم- حتى لو كان المقتول بريئا ولا علاقة له بمشاكل التنظيم مع الدول التى ينشط فيها، فإنه يلجأ مباشرة إلى حديث «يغزو جيش الكعبة فيخسف الله بأولهم وآخرهم، فيقول الناس فيهم من ليس منهم، فيقول النبى صلى الله عليه وسلم، يبعثون على نياتهم»، يعنى أن المقتول البرىء فى عمل يقوم به المتدين الحركى يبعثه الله على نيته يوم القيامة، وهذه استهانة بشعة بحياة المسلمين الذين لا تجيز أى ضرورة مهما عظمت انتهاك حياتهم وإباحة قتلهم، كما أنها نرجسية مقيتة، ممن يذهب لذلك التفسير الذى يضع نفسه فى موقف من يعفيه الله من قتل خلقه، ويبعث كل واحد منهم على نيته.

التدين الحركى هو البذرة التى قادتنا اليوم إلى توحش «داعش»، لأنه تدين يعبر عن أيديولوجيا تنظيمية متصاعدة لا نهاية لضبط تصاعدها الوحشى، فطالما أن ذلك التدين يفترض التنظيم غاية مقدسة، فإن أى محظور ينهار أمام بقائه الضرورى، بما فى ذلك التوحش وإدارته وما بعدها.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة