ظن البعض أن مقالى أمس «هل ثورة يناير ثورة؟» مراجعة فكرية أو اعتذار كتابى عن هذا الحدث النبيل الذى غمر مصر منذ خمس سنوات مضت، فهل كانت كذلك؟
بالطبع لا، لم تكن يناير «خطيئة» لأعتذر عنها، ولم تكن «سبة» لأتنصل منها، وبداخلى - بداخلى فقط - فخر حقيقى بما شاركت يداى فى صناعته، وبداخلى أيضا شجن، «كل ما تهل البشاير من يناير كل عام» يجتاحنى الشجن، أهرب من استعادة الذكريات فأغرق فيها، أحاول أن أبدو غير مكترث بهذا اليوم الشجى، فيجعلنى الهرب أكثر اكتراثا، تتداخل الأصوات فى عقلى، تتنازع على الرغبات، تجرنى الأحلام من أهدابى، أفتح عينى فأجدنى محاصرا بالشجن.
بعضهم سعداء بهذا، بعضهم يريدوننا غارقين فى اليأس، وبعضهم يأكلون لحومنا «حية» ونحن نظن أنهم إخوة لنا أو على الأقل أقارب، يرقصون على جثة «يناير» يتهمونها بكل شر، يحاصرونها بالزبد الخارج من أفواههم، ويظنون أن التاريخ سيقف على قدميه ليسجل ما يدعونه من أكاذيب، مرتزقة هم، ورأس مالهم الفساد، ينهارون كلما صرخ الناس «حاربوا الفساد» فيقول المريب خذونى، و«يحسس» كل صاحب «بطحة» على رأسه.
على الجانب الآخر يقف بعض «الهتيفة» يدعون أنهم حماة حمى «الثورة» لا يجدون لافتة يقفون تحتها لأن اللافتات الفكرية «صعبة»، واللافتات السياسية «صعبة»، واللافتات الدينية «صعبة»، واللافتات الوطنية «صعبة»، وكل لافتة تتطلب عملا ومجهودا وشقاء، ما عدا لافتة «ثورة يناير» فهى الوحيدة التى يستبيحها الجميع فتحولت هى الأخرى إلى ساحة من ساحات «الاسترزاق» حتى بعد كل هذا الشتات.
بين طرفى المقص يقف «شباب يناير» الحقيقيون، ليتفرجوا على هذا وذاك، هم مثل الجيش الخفى، لا تحركه إلا بوصلة الوطنية، يخاف على مصر، ويخاف على شعبها، ويخاف على المستقبل ويريده أجمل، فى قلوبهم وطن مازال، فى عيونهم حلم مازال، فى وجدانهم شجن ووجع ورعدة، يشاهدون من يأكلون لحم «الثورة» ويشاهدون من يرقص على جسد «الثورة»، وليس فى قلوبهم أو على ألسنتهم سوى «مصر أجمل» «مصر أكبر».
لقد هرمنا فى هذه السنوات الخمس، وأكسبتنا النجاحات والإحباطات «حكمة» كانت مفتقدة، لكن بعض المرتزقة يريدون أن يحولونا إلى وحوش ومسوخ، فليس أقبح من الذين قتلوا يناير من أبنائها سوى هؤلاء الذين يرقصون الآن على جثتها، هم كدودة القطن، لا يجدون لهم «عيش» إلا على إفساد الزروع الصالحة، يظنون أنهم يحصدون آيات البطولة كلما أمعنوا فى التمثيل بجثة الثورة والعبث بدمائها السائلة، والآن والآن فقط، تراهم فى كل واد مسعورين، الآن والآن فقط و«الثورة» فى أضعف حالاتها يتباهون بقوتهم وشجاعتهم، الآن والآن فقط يجاهرون بعداء الثورة، وسب كل من شارك فيها برغم أنهم الوحيدون الآن الذين يحصدون ثمارها، والآن والآن فقط، ينتفخون ويتنفخون.
الآن عادت الثورة «غريبة» كما ولدت «غريبة» ولا تدوم الغربة مادام الحنين، أما الذين يظنون الآن أن شباب مصر قد ذهبوا إلى الموات فهم لا يدركون أنهم يناصبون العداء للمستقبل، ويسيرون عكس عجلة الزمن، ولا يظفرون سوى باحتكار كل عاقل، لأن الجميع يعرف أن «يناير» ليست كما يصورها طرفا التطرف، وإنما حالة عشق متفردة لوطن يئن، وشعب يرغب، وحلم يتفتح، ووعى ينمو كل يوم رغما عن الجميع.