فى مطلع ستينيات القرن الماضى، أمسكت شابة جميلة بيد طفل يبكى فى استقبال معتقل الواحات، شعر الطفل بالأمان، منذ قيظ 1960 وحتى 2002 لم تتوقف هذه اليد عن الإمساك بيد الطفل الذى أصبح كهلا، كان المعتقل يضم إخوة عظيمة: مصطفى ومهدى وعادل، وكانت نصف عائلتى خلف الأسوار، آباء ينتظرون أولادهم، ووطن يتهجى حروف الاشتراكية، والاشتراكيون خلف السجون، خرج الجميع للحرية، إلا أن عظيمة استمرت فى عطائها، وتشاء الأقدار أن يعتقل السادات على صبرى وفريد عبدالكريم وآخرين، فيما عرفوا بقضية مراكز القوى 1971، وترسل لى لكى أعاونها فى تلك المهمة، مع من، مع قادة نظام قيد حرية إخوتها، ترددت، ولكننى لم أكن أستطيع أن أرفض لها طلبا.
وفى القصر العينى كنا نذهب أسبوعيا، وعرفت أن عظيمة كانت تنقل الرسائل من السجن إلى المستشفى، هنا انعكس أول شعاع من نبل تلك الجوهرة، لم يمر عام حتى طالتنى يد السادات، وفوجئت بعظيمة ترسل لنا الأكل فى سجن القلعة ثم الاستئناف، كانت أم حركة الطلبة، وبعد حرب أكتوبر 1973 كانت تشترك مع الهلال الأحمر فى زيارة أسر الجرحى، ومن خلالها تعرفت على فتحية سيد أحمد وليلى الشال، ومن حركة ثورية إلى أخرى ومن معتقل إلى آخر 1972 و1973 و1975، كان الزخم اليسارى يتصارع مع الخلافات العقائدية الماركسية، لكنهم كانوا جميعا يتقاسمون خبز عظيمة، أم المعتقلين، وحينما انطلق التجمع فى إبريل 1976 أقنعتنى بالانضمام، وأسست مع ليلى الشال وفتحية سيد أحمد وأخريات اتحاد النساء التقدمى.
ولم يكمل التجمع عامة الأول إلا وانطلقت انتفاضة يناير 1977، لتغلق سجون مصر أبوابها على آلاف من المتهمين، ويفرج عنى فى فبراير 1977 لأعود إلى كتيبة عظيمة الحسينى ولجنة الحريات معها، وأمينة النقاش، ومحمود حامد لم يكن من قيادات التجمع خارج السجون سوى خالد محيى الدين وعبد العظيم المغربى أطال الله عمرهما، وكنا ننام فى الحزب وكتيبة عظيمة النسائية تعد الطعام للآلاف، وهنا انطلق شعاع الحب الحقيقى من جوهرة عظيمة، وبعد الإفراج عن أغلب المعتقلين وقفت عظيمة معى وساعدتنى على الزواج من زوجتى الراحلة مريم التى تعرفت عليها من خلال تقاربها مع عظيمة فى لجنة الحريات، وسافرت إلى موسكو 1978/1987، ولم تنقطع عنى عظيمة تارة بالمراسلات وأخرى بزيارتنا للعلاج، عدت وانتقلت زوجتى إلى السماء 1991، لتحصل لى عظيمة على شقة بنفس العقار الذى تقيم فيه شارع المدرسة القومية بالمنيل، وتعمل على تقويمى بالمساعدة على العمل عبر علاقاتها، ومتابعتى حتى أقلعت عن الكثير من العادات السيئة، وتتصل دائما بوالدتى ووالدى رحمهما الله، وتعلمنى كيف أكون أبا لابنى زكى، وتحاسبنى إن أخطأت.
وفى 2002 تركت السكن، ولكنها لم تتركنى بالاتصال أو بالزيارة، ولم تتوقف عن النصح والتقويم، وحينما هاجمها المرض قمت بزيارتها وقضيت معها ساعات، وكان ذلك لقاءنا الأخير، ومنذ ثورة يناير 2011 كنا نلتقى فى التجمع، كنت أرى الأمومة من خلالها، كانت أمى الثانية والأخيرة، وحينما نعاها الناعى شعرت باليتم وبتضاؤل شعاع الثورة وانزواء المحبة اليسارية، وتذكرت ما قاله الشاعر سمير عبد الباقى: «صوتك على موج البحور فى قلوبنا سارى زى ابتسامة الطفل فى القلب اليسارى»، أمى الحبيبة ستظلين باقية فى حزبك وفى وطنك، مع كل طلعة شمس للحرية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة