وقفت كثيرا أمام مقولة الإمام الليث بن سعد إلى هارون الرشيد، وهو يرشد خليفة المسلمين «هارون الرشيد» إلى خارطة إصلاح مصر، فقال الليث: «يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتى الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت السواقى»، وهى المقولة التى تتشابه مع ما نتداوله الآن حول أهمية إصلاح رأس الحكم فنقول: «إن السمكة لا تفسد من ذيلها» أو «السمكة لا تفسد إلا من رأسها»، وسبب توقفى أمام هذه المقولة البليغة، هو أن الكثير من الحكومات تضيق بالنقد وتغضب من الهجوم، وتعتبره معطلا وليس دافعا، فهل أخطأ الإمام الليث أم تخطئ حكوماتنا المتعاقبة التى لا تدرك أخطاءها إلا بعد فوات الأوان؟
لم يخطئ إمام أهل مصر وأحد أهم الأئمة فى تاريخ الفقه الإسلامى فى هذه المقولة، فهو جسد بمقولته هذه جانبا مهما من جوانب فلسفة الحكم فى عالمنا العربى والإسلامى، بل فى العالم أجمع، فكثيرا ما نقول: «إن الناس على دين حكامهم»، وذلك لأن الحكام هم من يملكون الموارد والسيادة، وهم من يصنعون القرار، ويسيدون الخطاب اللإعلامى المناسب لتسيير الناس وسياستهم، ولهذا يصنع الحاكم- أى حاكم- الكثير من «النماذج» المصغرة منه، فتجد لكل حاكم ما يشبه «الألتراس» يؤمهم التعصب وتحدوهم المزايدة حتى على الحاكم نفسه، ولذلك كثيرا ما نجد أناسا «ملكيين أكثر من الملك» وجمهوريين أكثر من رئيس الجمهورية، وشيوعيين أكثر من لينين، ويتحول هؤلاء الناس فى كثير من الأحيان إلى سوط مسلط على ظهر الحاكم نفسه، لأنهم يدفعونه إلى المزيد من التعصب بل قل المزيد من الجنون.
انظر إلى حال الشعب المصرى حينما كانت الدولة ترفع شعار الاشتراكية، وقارن بينه وبين حالنا الآن فى عصر ما بعد الانفتاح، كان المصريون أكثر رحمة ومشاركة فى كل شىء، فى الأفراح والأحزان فى المسرات والمضرات، وكثيرا ما كنا نرى الجيران يتهادون بأطباق الطعام ولفائف الحلوات بمناسبة وبدون مناسبة، لكن بالمقابلة لهذا وقع الكثير من أبناء الشعب المصرى فى فخ التهاون والإهمال وعدم الاكتراث، حينما رفعت الدولة لواء الرأسمالية وثقافة السوق، وحولت كل شىء إلى سلعة تباع وتشترى، أصبحت الأنانية هى الشعار، والعزوف عن المشاركة الاجتماعية هو السائد فى مجتمع يتسابق نحو الجمود والتيبس، برغم الارتفاع الطفيف فى معدلات النمو.
ما سبق ليس بكاء على الأطلال، وليس رصدا اجتماعيا مقصودا لذاته، وليس أيضا المقصود منه إملاء سياسة مالية أو اقتصادية معينة على الحكومة، بل من الممكن أن تعتبره «الحكومة» إشارة تنبيه إلى بعض المشكلات الاجتماعية التى نعانى منها حاليا، وسنعانى منها مستقبلا، ولا أطلب من أى حكومة سوى أن تنظر الجانب الآخر، إذا ما أرادت أن تتبنى جانبا بعينه، فيجب على مؤسسات الدولة الآن وهى تتجه إلى نظام السوق بكل قوة أن تضاعف مجهودها فى مجال «التربية» و«التثقيف» و«الرعاية» لكى لا تتفاقم أمراض الرأسمالية أكثر، فنصيب مجتمعنا «المحتضر» بالسكتة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة