نجد اليوم فى عالمنا المعاصر أن "النظام الاقتصادى الوسطى" أو "المختلط" هو أكثر النظم تطبيقًا بعد أن ثبتت فشل كل من النظامين "الرأسمالى المطلق" و"الاشتراكى المسيطر"، ففى الأول حلت سلطة الفرد محل الدولة وفى الثانى حلت سلطة الدولة محل الفرد، فسقط النظامين.
بحيث انتهى النظام الاشتراكى السابق إلى أن ألغى نظام الملكية الفردية وهو يقابل النظام الرأسمالى القائم فقط على الملكية الفردية وحدها، فالنظامان متقابلان، كل منهما يتخذ موقفًا معارضًا معارضة تامة من الآخر، فالمذهب الرأسمالى المطلق يتخذ من الفرد كما سبق ذكره وسيلةً وهدفًا، ومن الملكية الفردية إطاراً للنشاط الاقتصادى ومن باعث الربح الفردى وبأى طريقة وسيلة لتحقيق ذلك، حتى ولو على حساب باقى أفراد المجتمع. بينما النظام الاشتراكى المسيطر يحل الدولة كما ذكرت محل الأفراد، وسلطة الدولة محل حرية الأفراد، وملكية الدولة المطلقة محل الملكية الفردية بكل صورها، وإشباع الحاجات العامة كما تحددها الدولة محل الربح الخاص، حتى ولو على حساب الفرد.
والحق أن هذا التعارض بين النظامين "الرأسمالى" و"الاشتراكى" يفقد بعضه حينما نأتى للتطبيق العملى، وهو ما يدل دلالة واضحة على أرض الواقع من تغيرات أدت إلى تطور تلك الانظمة من داخلها. فمن ناحية لم يستطع النظام الرأسمالى منفردًا أن يحافظ على فرديته كما أثبتته تجارب الدول، واضطر تحت ضغط الحوادث والأزمات الاقتصادية المتكررة وتحت الصراع الطبقى المستغال وما نتج عنه من حالات البطالة والتضخم (ومثل ذلك الأزمة المالية العالمية التى اجتاحت أمريكا وأوروبا)، وأدت إلى أن يعدل هذا النظام من مبادئه فى التطبيق، فوجدنا حكومات الدول الرأسمالية الكبرى تتدخل فى الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، وتحاول أن تقرب بين الطبقات واضطرت أيضًا فى كثير من الأحيان أن تدخل السوق لتستثمر بنفسها.
أما فى الناحية المقابلة لم يستطع النظام الاشتراكى المسيطر أيضاً أن ينطبق انطباقًا دقيقًا كما يستلزم المذهب الجماعى، فاضطر أيضاً فى أزماته (مثل حالة الاتحاد السوفيتى وتوابعها من الدول الاشتراكية فى فترة حكم جورباتشوف) أن يدخل هذا النظام الكثير أيضًا من تعديلات فى التطبيق، فقد رجعوا عن المساواة الدقيقة بين الأجور، وانتقلوا إلى الأجور المتفاوتة، واعترفوا بضرورة تفاوت الأجور كباعث على رفع الإنتاج وربط الأجر بالإنتاج واعتماد مذهب العمل بدلاً من مذهب كل حسب حاجته، إلى جانب تحديد الملكية العامة نسبيًا وإتاحة الفرصة للقطاع الخاص ليحل تدريجيًا محل الدولة فى الاقتصاد، ولكن مع الاحتفاظ للدولة بحق ممارسة النشاط الاقتصادى فى القطاعات الأكثر تأثيرًا فى مستوى معيشة الطبقات المتوسطة ومحدودة الخل والفقراء، وذلك لتحقيق قدر من "العدالة الاجتماعية".
ومما سبق يتضح لنا اليوم إذن أن الصراع الفكرى الذى كان قائمًا بين الرأسمالية المطلقة والاشتراكية المسيطرة انتهى بلا رجعة، وحل محلهما نظام جديد أوجد تخفيضًا لهما فى التطبيق العملى، وعلى ذلك فقد حاول كل من الفريقين أن يلطف فى التطبيق من مبدئه النظرى، وتم ذلك بأن أدخل النظام الرأسمالى بعض عناصر النظام الاشتراكى والعكس بالعكس، انظر إلى فرنسا اليوم وروسيا، كيف كانا وكيف أصبحا.
لذلك أرى أنه يجب علينا فى مصر اليوم أن نختار لأنفسنا نظاماً وسطاً، ولا نبالغ فى تلك الرأسمالية المحاولة أو فى تلك المحاولة الاشتراكية، وأن نعطى سببًا لوجود المبادئ الوسطية حتى تتضح هوية الاقتصاد المصرى ونبدأ التنمية والتقدم المنشودين.
أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة .
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة