لن أندب وأندد وأرفض ما حدث مع إسلام البحيرى، ولكنى سأنظر للمشهد من زاوية أخرى تمامًا وهى حال مصر الآن فكريا وثقافيا ودينيا، ولعل فى هذا الرصد إجابة على موقفى من قضية البحيرى، الآن نحن أمام حالة استقطاب واضحة وسيولة فكرية تؤكد أننا غير متصلين بتاريخنا، وهناك قطيعة مؤسفة بين تاريخنا بكل ما يحمله من زخم وتراث وإبداع وبين اللحظه الراهنة التى تصرخ بالجهل والخراب وعناكب الرؤى والمواقف، نحن منذ عصر محمد على وحتى الستينيات كان لدينا مفكرون ورموز ثقافية وأدبية ودينية كانت تمثل جهاز مناعة المجتمع المصرى وتثبت هويته وبوصلته، وتطرد أى فيروسات للمتعصبين والمتطرفين، وما حدث أن السبعينيات شهدت نكوصًا على هذا التراث، وشجع نظام السادات فكر التسطيح، وأهمل الثقافة، بل سعى بكل قوته لتهميش الثقافة والإبداع، وجاء عصر مبارك ليقضى عليهما تماما وأدخل المثقفين حظيرة الدولة والانبطاح أمام النظام، وترك الفكر الوهابى والإخوانى يأكل ما تبقى من تراثنا ومفهوم المجتمع المعتدل عن الدين، ومع زحف العمالة المصرية من الطبقة المتوسطة والدنيا إلى الخليج عادوا بالدين الشكلانى المتمثل فى الزى واللحى وملبس المرأة وفقه النساء الذى أنفق فى نشره مليارات، وسادت مفاهيم متعصبة دمرت قيمنا المصرية، وانتشر فكر التكفير الذى نما فى أحضان جماعات العنف، وانتهينا لمجتمع فقد بوصلته تمامًا بعد أن تمكنت منا حناجر الدين الوهابى وفقه الصحراء، وترك المفكرون والعلماء المستنيرون الساحة تمامًا، حتى ألغيت من ذائقتنا قيم الحوار وآداب الاختلاف، فضلا عن قيم التحضر فى كل مناحى سلوكنا وحياتنا، والشواهد على ذلك مثل الشمس.
ورغم أننى لست من ضحايا الحنين للماضى (النستولوجيا)، لكن لابد من المقارنة لنعرف كيف أصبحنا، فى العشرينيات خرج حسن البنا ليدعو لإحياء الخلافة، وكان هدفه من ذلك التزلف والتملق للملك فؤاد- وهو نفس ما فعله مع ولده فاروق ضد وطنية ومعارضة زغلول والوفد لهما- وعندما انضم غالبية علماء الأزهر لدعوة البنا من زاوية النفاق للملك خرج مفكر أزهرى حر هو الشيخ على عبدالرازق بكتاب صدم الجميع هو الإسلام وأصول الحكم الذى نفى فيه بالأدلة وجود الخلافة فى القرآن والسنة، وأثبت أن الخلافة كانت كوارث متلاحقة على الإسلام، وهنا اجتمع علماء الأزهر وأعلنوا سحب شهادته وكفروه، وطالب البعض بقتله علنًا، والتاريخ يقول إن كل من رجموه طواهم النسيان وبقى كتاب الرجل من أعظم إبداعات عالم مسلم يشهد على عظمة الدين والرجل.
بعد عدة سنوات وبالتحديد فى 1937 أصدر الدكتور إسماعيل أدهم كتابا بعنوان لماذا أنا ملحد؟ هذا الكتاب أزعج المجتمع وقتها ورد عليه الكاتب محمد فريد وجدى بكتاب لماذا أنا مؤمن؟ وكانت تعقد مناظرات ثقافية بينهما أقبل عليها الشباب، وترصد صحف الفترة أن كتاب فريد وجدى كان نشره يضاعف توزيع الصحف، وأن أدهم خرج مهزومًا بالحوار وفضل ترك مصر وقتها للأبد، بعد ذلك تشتعل معركة أخرى فجرها طه حسين بكتابه فى الشعر الجاهلى الذى يدعو فيه لنقد التراث الإسلامى والدينى حتى تنهض الأمة، ونعته علماء الأزهر والإخوان بالكفر وقادوه للمحكمة والنيابة، وبعد التحقيق معه كتب وكيل النيابة محمد نور مذكرة صارت مصباح نور وتنوير عندما قال إن من حق طه حسين كمفكر أن يجتهد، وإن الأمم لا تتقدم الا بأفكار المفكرين.
فى ذاك الزمان كان المجتمع المصرى محصنًا بحيث يطرد أى متعصب، ويقبل الآخر، ويعرف كيف يلحق بركب العصر والحداثة، وهو يحافظ على ثوابت الدين، وبعد التدمير الذى حدث للوعى المصرى صرنا نعيش حالة من الشيزوفرنيا، نذهب للحج والعمرة وننفق المليارات ونحن أكبر بلد فيه الرشوة والفساد والتحرش وحوادث الطرق، ونتشدق بتمسكنا بالدين وليس لنا منه إلا الشكل والطقوس، ونثور إذا خرجت دعوة من أحدهم بمراجعة ما قدسناه وهو ليس مقدسا وما حفظناه بلا فهم أو وعى، وألبسنا الدين ما ليس فيه بعد أن سلمنا عقولنا لكتب صفراء ودعاة يسكنون القصور وملايين المسلمين تسكن القبور، هذا هو حالنا يا أمة ضحكت من جهلها الأمم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة